Sunday, April 05, 2009

جولة في ذاكرة العراق عبر القطار

عن: الواشنطن بوست
ترجمة: علاء غزالة

العاصفة الرملية تجعل بغداد الحزينة أكثر حزنا على الدوام. تتحول الشمس الى قمر في سماء رمادية في حالة حداد. يتوقف الزمن حينما يذوب الفجر في يوم غائم يشعرك وكأنه الغروب. تجلب هذه العواصف، التي اصبحت شائعة هذه الايام، حبات الحصى الناعمة التي تستقر على كل شيء، حتى على حاجبي الجندي باسم كاظم الخاليين من التعابير.
انحنى نحو السيارة التي تمر بنقطة التفتيش عند مدخل محطة بغداد المركزية للقطارات، حيث كان يقوم بواجبه. تقلصت عيناه وهو يحشر رأسه ليتعرف على الموجودين في السيارة.
عزف جهاز التسجيل الصوتي في السيارة اغنية لام كلثوم، المطربة المصرية الشهيرة من جيل سابق، من شريط مخدوش. كانت اغنية "سيرة الحب"، حيث علا صوتها المنقطع النظير صوت الكمان الحزين.
قال كاظم للسائق: "دعني استمع لدقيقة، ثم سادعك تمر."
استمع الى ام كلثوم تصدح: "من همسة حب لقيتني بحب. بحب وادوب في الحب. ليل ونهار على بابك." ثم سمح للسيارة بالمرور.
دب نشاط جديد في محطة قطارات بغداد فيما بعد نقطة السيطرة، وقد عادت للحياة بعد سبات طويل. ولكنها تستعيد الى الذاكرة عالماً ضائعاً، مثلما تفعل تلك المطربة الاسطورة. تقف منارتي الساعة، مثل برجي حراسة، على جانبي القبة التركوازية التي بنيت قبل نصف قرن. تعلن بطاقات رثة عن رحلات لم تعد موجودة: الى الموصل والى حصيبة وعبر الحدود الى سوريا وتركيا. ترسل الثريات السقفية ومضات من الضوء تتوهج تحتها علامات التميز بين درجة المنام والدرجة السياحية التي لم يعد لها اهمية.
والمحطة باكملها ليست الا بوابة تؤدي الى القطار المتوقف عند طرفها.
المرور من خلال المحطة هو مرور من خلال عراق آخر، ابعد ما يكون عن تلك البلاد هذه الايام، حين كانت ذات مرة عنيدة للغاية وان كانت غير واثقة. هذا الـ(عراق) تملؤه ذكريات، هي في بعض الاحيان محض خيال، عن ماض خلا من سفك الدماء. انها امة حيث تذكـّر الاسماء بالمكان، لا بجريمة المحتل وتماديه، في ابو غريب وحديثة وحتى في بغداد. انها البلاد التي تتفتح بين نهرين امتلئا على طولهما بحدود غير دقيقة للتقسيمات العرقية والطائفية، التي فـُصلت حتى في اصغر المدن بجدران كونكريتية كئيبة، او بتداعيات المذابح الجماعية العالقة في الذاكرة.
قال احمد مراد، وهو يستقبل عربة القطار: "في القطار، توجه الى الامام مباشرة."
صفر البوق في الساعة 6:25 مساءا، ورمى العمال والطلاب، وهم الابناء الطيبون العائدون الى بيوتهم، والمهنئون والمعزون، ستراتهم وحقائب الكتف المنتفخة وحقائب الطعام وقطع السجاد الملفوفة بحزم على الرفوف العلوية. استلقوا على المقاعد الجلدية الخضراء المهترأة، يتهامسون كما لو كانوا متفرجين يتحدثون قبل بدء مسرحية.
ليس للقطار رقم، فهناك قطار واحد فقط ينطلق كل ليلة الى البصرة الواقعة على بعد 540 كيلومتراً الى الجنوب.
صفر البوق ثانية عند الساعة 6:30. جرت عربات القطار الست نفسها متثاقلة، ثم ارتطمت بعضها مع بعض، بينما كان القطار يغادر في موعده. تهاوت صرخات عجلات القطار، وصنوج المعدن القادم من عالم آخر، والمكان الموحش دائما، في صحوة القطار.
سأل احدهم بتثاقل: "هل وصلنا الدورة؟"
وتعجب الاخر: "هل هي الكاظمية؟"
تسربت الريح الى عربة القطار بينما كان يستجمع سرعته. تلاشت الاعلام الملونة الدينية عن الانظار. كما تلاشت نقاط التفتيش المحاطة بالزهور البلاستيكية التي جللتها العواصف الترابية بالغبار. نفخ القطار بوقه بينما كان يمر بمشاهد مشوشة لصفوف ملتوية من السيارات تنتظر دورها في التفتيش في نقاط السيطرة، ونفخ ثانية حينما مرّ بسيارات للشرطة وقد ومضت مصابيح الانذار فيها، وثالثة حينما مرّ بجدران كونكريتية التي عُلقت عليها ملصقات الانتخابات الممزقة. امكن للحظة تميز وجوه الجنود الواقفين امام صف من المصابيح الامامية للسيارات ، قبل ان تغمرها ظلمة الليل مجددا.
ربما تكون تلك هي المرة الاولى منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 التي تتوقف فيها قافلة سيارات اميركية على الطريق في بغداد. فقد توقفت وهي في طريقها الى المطار بانتظار مرور القطار.
وفي الساعة 6:45 وصل القطار الى سرعته القصوى، وحينها اشعل عقيل موسى سيجارته، وهو يراقب مشهد البيوت المتربعة تحت اشجار النخيل هنا وهناك، غير مكترثة بالزمن.
قال، وقد جالت الافكار في خاطره: "ليس هناك سُنة هنا، وليس هناك من شيعة. نحن كلانا اجزاء من يد واحدة. اتعرف الى شخص ما فقط من خلال المناقشة التي نخوضها."
يُعد خط السكة الحديد هذا، من الناحية الروحية ان لم يكن من الناحية الواقعية، جزءً من خط اقدم، وشرق اوسط اقدم، وهو نتاج رؤية الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وحلفاؤها الالمان لبناء خط سكة حديد برلين-بغداد الذي ينتهي اخير في البصرة، ويجري بحرية عبر الامتدادات التركية غير المفصولة بحدود، في سوريا والعراق.
وقد بدأت خدمة القطارات مجددا في شهر كانون الاول، باقل قدر من التطبيل والتهليل. وقد كانت رحلة القطار على مدى ثمانية عشر شهرا قبل ذلك من الخطورة بمكان، لانه يمر بالمناطق المتمردة التي تتخفى بين اشجار الكالبتوز والنخيل وبين القرى الصفراء الواقعة في المنطقة التي عرفت باسم مثلث الموت. حينها صوب القناصون بنادقهم عشوائيا على القطار. وقد وقع مدير عام السكك الحديدية في كمين واصيب بطلقات نارية في كلتا رجليه عام 2004. كما تعرض الجسر قرب اللطيفية، الكائنة في قلب مثلث الموت، الى التفجير المرة تلو الاخرى.
اما اليوم، فالقطار ممتليء بالمسافرين، حيث تبلغ اجرة التذكرة مبلغ سبعة دولارات فقط، او خمس تكلفة سيارة الاجرة. وحينما مرّ القطار باللطيفية، لم يتوجس احد من خطر كامن.
قال هلال كريم، الذي يسافر من اجل عمل في البصرة: "الدليل (على الامن) اني اجلس هنا الان."
عُلقت الستائر القذرة في العربة رقم 499 على نافذة ذات شقوق. نوابض المقعد رقم 23 كانت مكسورة. القليل من المصابيح الرأسية في العربة كانت تعمل، اجتذب احدها حشرات طائرة لترقص حول السقف، بلا كلل ولا ملل. اما الجدران البنية فقد اضافت حصتها الى المشهد الكئيب.
هتف احد المسافرين من مؤخرة العربة، وقد اجتمع اثنان من اصابعه حول سيجارة: "يا محمد، اترك الباب مفتوحا، حتى يمكن للدخان ان يخرج."
ثم سرعان ما التقى عقب سيجارته مع بذور (حب) عباد الشمس الملقاة على الارضية.
صاح على احد الشباب الجالس امامه، وقد كان يحاول بلا جدوى ان يحشر عودا من البخور المشتعل في موضع لبرغي مفقود: "ماذا تفعل؟ هل تريد ان تحرق القطار؟"
تساءل مسافر آخر: "هل هذه هي اللطيفية؟"
اجابه صديقه مخمنا: "انها المحمودية؟"
عزفت اجهزة الهاتف النقال اغنيات منوعة. كان من بينها اغنيات لمطربين عراقيين مثل ياس خضر. وقام احدهم بعزف نشيد عسكري من وقت صدام على سبيل المزاح. ثم ادت مطربة سورية (...) اسمها (اصالة) اغنية اخرى لام كلثوم. "اخاف منك، واخاف تنساني. لكن البعد عنك صحاني، غلبني الشوق."
كانت كلمات الاغنية بالكاد مسموعة بالنسبة الى ولاء حسين الذي يقف عند باب القطار.
تطوع بالكلام، وهو يرتشف شايا ساخنا: "لقد سئمت من هذه الحياة."
جاء حسين، الشاب البالغ ثمانية عشر عاما من العمر وهو متزوج واب لصبي اسمه علي وعمره تسعة اشهر، جاء الى بغداد للعمل. لقد كانت تلك هي رحلته الخامسة على القطار. وقد نام في الشارع في الليلة الماضية، على أمل ان يكون من بين الاوائل في صف الانتظار للتقديم على سلك الشرطة. ولكن لم يكن لذلك اهمية.
قال: "ليس هناك من مستقبل، اقسم بالله." القى ما تبقى من الشاي في كوبه عبر الباب ثم وقف على رجليه، وقال: "ليس لدي حتى عشاءً واحدا اقدمه الى طفلي."
دفع ذراعه المفتولة نحو باب الخروج ورسم ابتسامة مضيافة. تطلع بوجه تعلوه نظرة الوداع الى خارج القطار حيث تعيش حيوات اخرى. حياته بالكاد بدأت. قال: "حينما اقف هنا، اريد ان اخرج كل الأسى من قلبي وارميه خارج هذا الباب."
ابتسم ثانية، بصرامة، وقال: "انه لمن الجيد ان يتحدث المرء."
تباطأ القطار. تساءل احدهم: "هل نحن في المسيب؟"
على مبعدة عدة صفوف من الكراسي الى الامام، كانت هناك اغنية تـُعزف. الاغنية اسمها "هذا العراق"، وينشدها تيسير الصفار. تقول الاغنية: "سوف نضيء طرقاتك بالشموع. سوف نجفف دموع عينيك."
ينتظر تاريخ الحروب الداخلية التي وقعت بالعراق في عامي 2006 و2007 ان يُكتب. انها تفتقر حتى الى الاسم. يُطلق عليها في بعض الاحيان تسمية "الفترة الطائفية" او "الحرب الطائفية." وفي احيان اخرى تـُعرف باسم "الاحداث." غير انه عادة ما تكفي الاشارة الى كلمة واحدة: "الطائفية."
اصبحت نقاط السيطرة الموزعة بكثرة في الشوارع العراقية، احيانا في كل 100 متر او نحوها، ميراث هذه الحرب. في بلد يكتظ بالجدران والموانع والسواتر والاسلاك الشائكة، تجد الكثيرين كارهين لها. يجري التفتيش في نقاط السيطرة اعتباطيا، حيث يكون الجنود احيانا فظين، بينما قد يدوم التأخير فيها لساعات، يتمثل باشرطة من السيارات المصطفة بتراخٍ على مسافة كيلومترات عدة.
قال علي زيد، الطالب الذي يبلغ عشرين عاما من العمر وقد كان يقوم بزيارة في بغداد: "يزعجك دائما ان ترى القوافل العسكرية الامريكية توقفنا وتمنعنا من التحرك في بلدنا."
اضاف ابن عمه عبد الله حامد: "والان انتقل عدوى هذا المرض من الاميركيين الى العراقيين. انه مثل فايروس ينتشر في حاسوبك. لا يمكنك محوه."
حامد هو شخص كثير الحديث وضخم الجسم. وهو يدرس الحاسوب، لكنه يقول ان ولعه الحقيقي هو في الشعر، سواء كانت اعمال امرؤ القيس، قبل فجر الاسلام، ام الشاعر نزار قباني، المتوفى في عام 1998. البيت الشعري المفضل لديه، متأثرا بالطائفية، هو: "دموع بغداد، ملايين الدموع. من لدي في بغداد، تبكي علي، وابكي عليها؟"
قال ان هناك شعراً يتلى في القطار. انها الثقافة المكتسبة في الرحلة.
واضاف، وقد مال رأسه الى النافذة التي يعلوها الغبار: "سوف تكوّن فكرة عن البلاد اذا استطعت ان تتجول خلالها بحرية. اريد ان انتقل من مكان الى مكان. اذا لم يكن لي ان اعرف العالم، فبامكاني في الاقل ان اتعرف الي بلدي."
عُزفت المزيد من الاغاني، كان احدها نشيدا للقطار.
صدح صوت ياس خضر، من سماعة خافتة: "راح ابقى على السكة، اعد المحطات للبصرة. وصلوا تل اللحم، لو عبروا؟"
بينما اقترب منتصف الليل، هوى المزيد من المسافرين الى النوم، ما عدا مجموعة من المشاغبين في الصف رقم 29. ومع حلول الساعة الثانية بعد منتصف الليل، سكن حتى هؤلاء الى الهدوء. لكن المسافرين تنحنحوا في مكانهم كلما ابطأ القطار.
سأل احدهم: "اين نحن الان؟"
وتساءل الاخر: "في أي مدينة نحن الان؟ في السماوة ام في سوق الشيوخ."
بينما اقترب القطار من البصرة بدأت السماء تصطبغ باللون الرمادي. ولاح عن بعد لهيب الغاز الذي يُحرق من آبار النفط، مثل مشاعل في الافق. عادت البيارق الدينية الى الظهور مجددا، كذلك عادت الكتابات والرسومات العشوائية السوداء على الجدران. كما عادت نقاط السيطرة، مع حدودها المرسومة.
توالت اصوات قرعات من القطار بينما كان يعبر قناة قذرة مليئة بالازبال في مدينة كانت تـُعد الاجمل بين مدن العراق.
توقف القطار في الساعة 5:58 صباحا. كـُتب على لافتة معلقة على جدار المحطة، قرب شباك التذاكر الذي يقدم (حجز درجة اولى): "محطة البصرة ترحب بكم." لقد وصل القطار دقيقتين قبل الموعد.