Thursday, May 28, 2009

الانحدار إلى الهاوية:قصة جنرال عراقي وعائلته خلال ثلاثين عاماً من القمع

عن: التايمز
ترجمة: علاء غزالة

لعل واحدة من الحقائق المحزنة الكثيرة التي ادت الى انحدار العراق الى الاقتتال الطائفي تكمن في عدم التفكر بشكل مناسب في الماضي القريب. فعلى مدى السنوات الخمس الماضية كان الصحفيون الاجانب والعراقيون منشغلين جدا في تأريخ واعداد مسوحات عن فظائع الصراع الحالي، بحيث لم يمضوا وقتا في التفكير بجرائم صدام على مدى ربع قرن من وجوده في السلطة. ان هذا لشيء مخجل، ليس فقط لان العراقيين يحتاجون الى الفرصة للراحة ومواجهة تأريخهم، بل لان العنف الذي نشب بعد عام 2003 لم يكن مفهوما الا قليلا بالنسبة للذين لم يعيشوا الظروف التي قدمت له. وهناك الكثير جدا من الصحفيين الاميركيين الذي يرسلون تقارير من العراق، تـُقرأ وكأنها رسائل مجموعة من رواد الفضاء الذين يزورون كوكبا اجنبيا متوحشا، تعروها مقاطع تأريخية سطحية عن الاقتتال الطائفي المؤسف.
انه لمن المريح حقا، اذاً، قراءة كتاب "مثقال حبة من خردل" لكاتبته وندل ستيفنسون، والتي روت ، بكل براعة واناقة، قصة تنسج كلا من ماضي العراق وحاضره. وكانت شخصيتها هي كامل ساجت، وهو جنرال عراقي وبطل حرب تجرأ على احتقار صدام، ومن ثم تم اعدامه عام 1999. وقد نذرت ستيفنسن، الصحفية التي كتبت للعديد من الدوريات الاميركية والبريطانية، نفسها لمهمة صعبة: فقد توفي ساجت قبل وقت طويل من وصولها عام 2003، ما يجعل تتبع سيرة حياته امرا في غاية الصعوبة. لكنها نجحت، وجعلت قصته استقصاءً قويا للسؤال الاخلاقي في قلب عراق صدام، والكثير من الدكتاتوريات الاخرى: لماذا يوافق الناس عليها؟ هل قاومها احد؟ واذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعلهم مختلفين؟
وقامت ستيفنسن بتتبع سيرة حياة ساجت من خلال شهادات الناس الذين عرفوه. وهؤلاء هم مجموعة غير اعتيادية من الشخصيات، بضمنهم جنرالات وجنود ورجال اعمال واثنين من الاطباء ذوي النظرة الثاقبة، بالاضافة الى افراد عائلة ساجت. وقامت بحياكة ذكرياتهم مع شذرات من مواد متبقية من تلك الفترة، مثل الخطب والتسجيلات المكتوبة عن البرامج الاذاعية وما شابه ذلك، وهو ما يجعل العراق في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات اكثر حيوية من أي كتاب آخر قرأته. (يجب ان اقول اني قد التقيت ستيفنسن وبعضا من العراقيين الذين ورد ذكرهم في كتابها.)
وعلى سبيل المثال، بدلا من ان تقوم ستيفنسن برواية الغزو العراقي للكويت في عام 1990، حيث كان ساجت قائد قوات خاصة، فانها تخبر القصة باكملها تقريبا من خلال تداعيات محمد الجبوري، وهو جندي كان يبلغ من العمر 20 عاما حين اطلق سراحه من السجن ومن ثم انزل بالمظلة على الكويت في نفس الليلة، يدخن السيجارة وكأنه يعوم على ارض جرداء حالكة. لقد قرأت الكثير من الروايات الجافة عن انقلاب عام 1968 الذي جاء بصدام ورفاقه البعثيين الى السلطة، لكن ستيفنسن تصفه من خلال عيني الدكتور حسين القضاني، الذي ايقضه ازيز الرصاص المتطاير في شارع الرشيد، وهرع من غفوته يذرع السلالم ليسأل باعة الرصيف عما يجري.
وهي تصحب هذه الشخصيات ايضا مع مضي الزمن قدما الى السنوات التي تلت عام 2003، حينما اختبأوا في العراق او هربوا الى المنفى. وباتت اصواتهم، التي تستذكر قصة نضال ساجت وحيدا مع صدام وقصة نجاتهم هم انفسهم، باتت شهادة تساعد على تفهم اكثر لظرف العراق الراهن.
يبدو ان ستيفنس معجبة كثيرا بـ(ريزارد كابوسينكي) وهو صحفي بولندي وكاتب واقعي. وهي تستخدم احدى تقنياته، بان تضم الى روايتها، بين الحين والاخر، وصفا لصور العائلة من شأنها ان تساعد في استحضار الماضي. وهي تكتب، مثل كابوسينكي، باسلوب خيالي فياض، يترك القاريء متسائلا عما اذا كانت تترك خيالها يسرح بعيدا في بعض الاحيان، وذلك لاضفاء بعض التشويق السينمائي، تماما مثل كابوسينكي.
لكن ستيفنسن دقيقة بشكل مؤثر حينما يتعلق الامر بالحقائق في معظم الاحوال، حيث انها تقوّم بعناية كل واحد من شهودها وزلاتهم التي قد تشوه ذكرياتهم. وهي تسعى، في كل حالة تقريبا، الى الكفاح الاخلاقي الشخصي، لحظة الاحتجاج الشجاع، او خداع الذات الذي يغشى الضمير المتعب. وهي تصبح -الى حدما- احدى شخصيات هذه القصة، تحاور بجدية واخلاص، وتسبر -على الدوام- وجوه العراقيين بحثا عن أمارة على الشعور بالذنب، او العزم على النسيان. يعكس عنوان كتابها هذا الاستحواذ الاخلاقي، والذي اقتبسته من آية قرآنية حول الميزان الالهي لافعال الخير والشر يوم القيامة، بحيث يكون الحساب الى حد "مثقال حبة من خردل."
تأتي واحدة من اقوى اللحظات في الكتاب من رجل عرفته باسم الدكتور ليث، وهو طبيب نفسي انتمى الى حزب البعث، وقد تعرض الى السجن بلا سبب عام 1991، ومن ثم عرضت عليه فرصة ان ينضم مجددا الى الحزب (وقد كانت تلك ممارسة شائعة يتم تطبيقها من اجل فرض الخوف والولاء). ولكنه رفض. وبعد مضي سنوات، الكثير من السنوات، يتحدث بيأس الى ستيفنسن عن ضياع الانسان في العراق وعن فشله الذاتي. وهو يقول لها: "لكني ابقيت هذا الشيء، هذا الشيء الوحيد الحسن، هذه اللحظة. لقد رفضت."
غير ان اكبر رفض على الاطلاق جاء من ساجت ذاته. لم تكن هناك مواجهة مفاجئة، ولم تكن هناك لحظة نطق بالحقيقة امام السلطة، او على الاقل لم تكن هناك لحظة نعرف عنها (يبقى سبب اعدام ساجت قضية تلفها التكهنات). بدلا عن ذلك يأتي الانفصال بطيئا وبالتدريج، ويبدأ تميّز جندي شجاع ومبدئي كان يخدم نظاما شريرا.
تصف ستيفنسن ساجت في غالب الامر من خلال كلمات زوجته واولاده، والذين سمحوا لها ان تجلس في غرفة معيشتهم في بيتهم ببغداد، وان تشاهد اشرطة فيديو قديمة مشروخة عن معاركه وانجازاته طوال حياته المهنية. وقد نشأ في عائلة بدوية فقيرة، وتدرج في الرتب العسكرية، واصبح بطلا اثناء الحرب العراقية-الايرانية. لكن ساجت لم يكن ذلك النوع من الابطال الذين تتخيلهم هوليوود حيث لم يكن سوى رفضه الغزو الكارثي للكويت ما يجعل ساجت يقلع عن مساندته للنظام، معتقدا ان صدام قد دمر البلاد بدون حاجة.
وفي السنوات التالية، بينما كانت العقوبات والفساد تنهش بالعراق، تعمقت غربته، لكنه كان جنديا مسلكيا، ولم يكن ذلك المتمرد الصريح. ولم يشترك في أي من المؤامرات التي حاكتها وكالة المخابرات الاميركية ضد صدام. بدلا عن ذلك، لجأ الى الدين، واضحى مؤمنا متزمتا. ورفض السماح لاحد اولاده بالالتحاق بالجيش. وفي آخر الامر، يبدو انه عرف ما سيأتي، لكنه رفض العروض بالهروب من العراق.
وبطريقة ما عثرت ستيفنسن على ضابط شهد اعدام ساجت، ويقص هذا الرجل –الذي يقطن انكلترا حاليا- القصة بتفاصيل حزينة ومؤلمة. وحينما ارسل الجثمان اخيرا الى عائلة ساجت، تم تعيين جنود لمراقبة النائحات اللواتي عرفن للتو من كان بداخل النعش.
وحينما زارت ستيفنسن العائلة آخر مرة، في عام 2005، وجدت ان ابناء ساجت قد استحالوا الى مساندين متحمسين لمجاميع التمرد ضد الاميركيين. وهم لايزالون مخلصين لكراهية ابيهم لصدام، لكن عالم الاخلاق القديم، بيقينياته الوحشية، كان قد تمزق. لقد توجب عليهم ان يتخذوا جانبا. يقال ان احدهم قاتل في معركة طائفية شرسة جنوبي بغداد. يقول احد القادة المحليين: "لقد كان ابوهم بطلا. لكنهم دنسوا اسمه."

Thursday, May 21, 2009

بعد الهجمات الانتحارية الأخيرة هل تعود القاعدة من جديد؟

عن: كريستيان ساينس مونيتر
ترجمة :علاء غزالة

لا يعتقد المسؤولون الأميركيون والعراقيون، الذين يواجهون زيادة في الهجمات الانتحارية النوعية، انها تشير الى انعكاس في ظاهرة انخفاض الهجمات. لكنهم يقولون ان من الراجح ان تكون المناورات السياسية بين القيادات العراقية التي تتهيأ لخوض الانتخابات الوطنية قد احدثت اثرا في القرارات التي لها دور مهم في تفجير الوضع الامني. وقال مسؤولون اميركيون وعراقيون رفيعو المستوى، ومسؤولون في الاستخبارات الاميركية، في سلسلة من المقابلات الصحفية، انهم يتوقعون ان تستمر المكاسب التي تحققت في الحرب على تنظيم القاعدة في العراق، والمتمثلة بالحد من قدرات هذه المجموعة على زعزعة استقرار القوات العراقية التي اصبحت اكثر قوة، وحكومته التي باتت اكثر ثقة.
لكن الاستطلاع المقدم في بعض اكثر مدن البلاد تعرضا للعنف يقلل من هذا اليقين. وكان المسؤولون الامنيون في الموصل وديالى قد قالوا باستمرار انهم بحاجة الى مساعدة القوات الاميركية فيما بعد تاريخ 30 حزيران، وهو الموعد النهائي لمغادرة القوات الاميركية للمدن العراقية. لكن تصريحات رئيس الوزراء الاخيرة بانه لن يطلب من القوات الاميركية ان تبقى في هذه المدن، ، قد أدت الى تخبط المخططين العسكريين.
يقول ضابط اميريكي رفيع المستوى، طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الموضوع: "هناك اتفاق واضح جدا، في عدة اجزاء من البلاد، بين القادة العسكريين العراقيين والاميركيين. وكلما ارتفع مستوى المسؤولين اقحمت عوامل اخرى الى المعادلة." ويقول انه في ذلك المستوى "فان الحملة الانتخابية لخوض الانتخابات الوطنية قد بدأت بالفعل."
يذكر ان اتفاقية مستوى القوات، التي ابرمت بين الولايات المتحدة والعراق في شهر تشرين الثاني الماضي بعد مفاوضات شاقة استمرت على مدى عام كامل، تقضي ان تسحب القوات الاميركية قواتها خارج المدن العراقية بنهاية حزيران، وتنسحب الى خارج العراق باكمله بنهاية عام 2011.
ويعمل المسؤولون الاميركيون والعراقيون على تقويم الحاجة الى ابقاء القوات القتالية فيما بعد شهر حزيران في المناطق الواقعة شمال العراق، حيث يتخذ المتمردون ملجأ آمنا بعد ان طردوا من بغداد.
وكان الجنرال راي اوديرنو، وهو اعلى ضابط اميركي في العراق، قد حذر من ان القوات الامنية العراقية في ثالث اكبر مدينة عراقية، وهي الموصل، بحاجة الى وقت اضافي من اجل انهاء تطهير بعض المناطق من المتمردين لضمان عدم عودتهم مجددا.
وينظر الى الستراتيجية التي اتبعتها القوات الاميركية بالتمركز قريبا من التجمعات السكانية على انها عامل اساس في نجاح القوات الاضافية على تقليل العنف.
تصريحات المالكي
يعتقد معظم المسؤولين الاميركيين والعراقيين بان تصريحات المالكي هي للاستهلاك المحلي، وهي لا تمنع عمل استثناءات من موعد حزيران النهائي في بعض المدن. ومن الناحية التقنية، فان الاستثناء يعتبر مختلفا عن التمديد، وهو ما قال رئيس الوزراء انه لن يسمح به.
يقول مسؤول عرافي رفيع المستوى: "يعلم المالكي جيدا بالحاجة الى وجود القوات الاميركية في هذه المناطق."
وقد قدحت زيادة الهجمات الانتحارية، التي قتلت اكثر من 350 عراقيا في شهر نيسان، المخاوف من ان يستعر العنف مجددا بما يتجاوز قدرة القوات العراقية، في الوقت الذي تنسحب القوات الاميركية من المراكز الرئيسة.
وبينما يقول مسؤولو الاستخبارات انهم لا يعتقدون ان هجمات الشهر الماضي هي استمرار لظاهرة، فانهم قلقون بشأن العوامل غير المتوقعة، واهمها تأثير تقليل الميزانية على القوات الامنية العراقية التي لاتزال ضعيفة، وعلى مستقبل قوات المتطوعين مدفوعة الاجر التي كان لها الدور المهم في تقليل العنف.
يقول احد مسؤولي الاستخبارات: "ان كان مستوى العنف اليوم هو على ما هو عليه، فلا بأس. لكنك ان سحبت قوات ابناء العراق من الشوارع فسوف تكون هناك فجوة... ما هو التأثير المتوقع لتقليل النفقات، وتأثير عدم حل هذه المسائل الشائكة، وتاثير الانتخابات؟ هناك الكثير من عدم اليقين هنا."
تتضمن "المسائل الشائكة" القوانين التي طال تأخيرها والتي سوف تحكم طريقة اقتسام السلطة والموارد النفطية، بالاضافة الى وضع مدينة كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها .
ترقب أنماط الهجمات
شعر العراقيون بالقلق من هجمات الشهر الماضي، والتي ادت الى مقتل اكبر عدد من الناس منذ شهر ايلول، اغلبهم من المدنيين. وكانت اهداف هذه الهجمات اضرحة شيعية كبرى في بغداد، ويبدو انها هدفت الى اعادة قدح الاقتتال الطائفي الذي جرّ العراق الى حرب اهلية قبل عامين.
لكن مجتمع الاستخبارات يراقب انماط الهجمات، وبالتحديد المدة الزمنية التي تفصل بين تخطيط وتنفيذ التفجيرات. يقول مسؤولو الاستخبارات ان قدرات تنظيم القاعدة في العراق على شن هجمات متكررة وفعالة ومعقدة قد اضمحلت بعد ان فككت الولايات المتحدة والعراق العناصر الرئيسة في شبكتها.
يقول احد مسؤولي الاستخبارات، والذي طلب عدم ذكر اسمه وهي سياسة متبعة في القضايا الاستخبارية: "لازلت ارى ان ظاهرة انخفاض الهجمات سوف تستمر في الوقت الذي نقترب فيه من موعدين رئيسين: الموعد النهائي للخروج من المدن، ومن ثم الانتخابات."
ويقول انه سوف يكون قلقا ان شهد تجددا سريعا في تنظيم هجمات منسقة:
ويقول احد مسؤولي الاستخبارات: "انها رؤية وتشخيص العنف، تأثير العنف، نوعية العنف، واين يقع ذلك العنف،" اكثر مما هي عدد الهجمات.
ويضيف هذا المسؤول: "القضية الاكبر هي البيئة التي تجري فيها هذه العمليات، حريتهم في الحركة، تجنيدهم. وفي نفس الوقت لديك تنامٍ في قدرات الحكومة على المستويات المحلية والوطنية، بينما تتطور القوات الامنية العراقية ببطء."
وعلى الرغم من ذلك، فان الهجمات الانتقامية من المتطرفين قد تعيد دورة العنف مجددا.
يقول مسؤول عالي المستوى في وزارة الخارجية الاميركية: "ان ما يثير خوفهم حقا هو ان القاعدة تركز على هجمات من شانها ان تقدح التوترات الطائفية. والعامل الحيوي هو: هل تنجح هجمات القاعدة في احداث هجمات مضادة؟ انت ترى ارتفاعا بسيطا في الهجمات، وارتفاعا كبيرا في الضحايا المدنيين، لكنك لا ترى تصاعدا في العنف الطائفي."
المستوى "المقبول" من العنف
بالنسبة الى المسؤولين الذين تحدثوا طويلا عن "المستوى المقبول من العنف" الذي بامكان القوات العراقية ان تتصدى له، والذي يتقبله الشعب العراقي، فان الوضع الحالي قد يكون اقرب ما يكون من ذلك المستوى.
يقول احد مسؤولي الاستخبارات: "سوف تبقى تشاهد هجمات نوعية، في عشرة اشهر، او اثني عشر شهرا او خمسة عشر. سوف تستمر في رؤية ذلك، لكنها ستكون اقل تأثيرا."
لكن السؤال الاقل توقعا سيبقى، مع انسحاب القوات الاميركية وتضافر المشاكل السياسية والمالية العراقية، هل ان القوات العراقية ستكون بعد عام من الان قادرة على الحد من هذه الهجمات بنفسها؟

Thursday, May 14, 2009

مدينة الشعراء تنعم بالاستقرار..البصرة تعود إلى جذورها

عن: كريستيان ساينس مونيتر
ترجمة :علاء غزالة

انحنى الشاعر خالد المياحي نحو لاقطة اذاعة الرشيد وفتح قلبه للمدينة، مستعملا كلمات كانت ستؤدي الى قتله قبل ان تستعيد القوات العراقية البصرة من ايدي المليشيات المتطرفة في العام الماضي. انشد قائلا: "انا راهب بحبك. بنيت اكبر الكنائس في روحي من اجلك"، ملوحا بيده بعاطفة تجسد صدى ما كتب. وراحت ارتجالات الكمان المؤثرة للعازف نائل حامد، الذي يجلس بالقرب منه، تسبح عبر الاثير. ثم التقط المذيع عودا عربيا تقليديا ليشترك معهما.
في هذه المدينة التي تمتلك جمالا ذاويا وقرونا من الحضارة، بدأ الشعر والموسيقى، التي انزوت تحت الارض في فترة سيطرة المليشيات، في التفتح من جديد.
استطرد السيد المياحي، الذي يبدو بهيأة نجم سينمائي وهو يلقي الشعر وكأنه يحترق: "حفرت صليبا في قلبي. ليس من احد مثلك في هذا الكون. انت سؤال احتواه كتاب باجمعه."
هذا البرنامج الحي هو في غاية التشويق، وفي هذه المدينة المحرومة، فانه يسقط مطرا مرحبا به. تشرق خطوط الهاتف باصوات فتيات يردن ان يشاركن حبهن للشعر، حيث يُستدعى عريف الشرطة وعاشق الشعر في كل حلقة.
يقول مدير المحطة نوفل العبيد: "يريد الناس العراقيون ان يستمعوا الى الموسيقى. انهم يريدون حياة جديدة، خصوصا في البصرة." وكان السيد العبيد، وهو صحفي، قد غادر العراق عام 2006 بعد ان خُطف وقـُتل احد اصدقائه، وقد عاد قبل ثمانية اشهر. ويقول: "لقد اخذت الامور بالاستقرار في البصرة، ولكن ليس 100 بالمائة. يمكن القول 60 او 75 بالمائة."
هذه المحطة التي طورتها اذاعة الرشيد في بغداد، تبث مزيجا من الموسيقى والشعر والحديث، غير ان عمرها يبلغ شهرين فقط.
لكن الشعر يعود الى قرون مضت. وهو كالهواء بالنسبة الى العراقيين. ففي البرامج الاذاعية في بغداد يتصل الناس ليطلبوا اذاعة القصائد بنفس الطريقة التي يتصلون ليطلبوا اغانيهم المفضلة. واذا توفي شاعر معروف فان ذلك مناسبة للحداد وطني.
وللبصرة تاريخ من الحضارة يعود الى 5000 سنة مضت عندما كانت جزءا من سومر القديمة. ويعتقد ان السومريين هم اول من اخترع نظام الكتابة. وتقع المدينة على شط العرب، حيث يلتقي دجلة بالفرات، وتتربع على ملحمة السندباد البحري، وعشرات الالاف من القصائد التي تلتها.
قصائد، وقصائد في كل مكان
لا يمكنك ان تدير وجهك في البصرة، في هذه الايام، بدون ان ترى او تسمع شعرا. وعلى الكورنيش المحاذي لشط العرب، حيث تتمشى العوائل بعد الغروب، يستند اثنان من الشعراء الجادين الشباب الى حافة السياج حاملين دفاتر ملاحظاتهم، ومراقبين الزوارق المارة.
احد الزوارق يحمل عرسا حيث يقرع الشبان المرتدين سراويل الجينز السميكة على الطبول ويرقصون بمرح في خلوتهم على السقف، وهي اشارة لم تخطر على البال قبل الربيع الماضي.
يكتب علي المنصوري وسيف الحلفي، وكلاهما طالب في جامعة البصرة، قصائد شعبية، وهو الشعر المحبب في الشارع، حيث يُكتب ويُتلى بلهجة دارجة، بدلا من اللغة الفصحى التقليدية الاكثر تعقيدا. هذه القصائد التي عادة ما تتحول الى اغان، هو شعر موجه للجماهير.
يقول السيد المنصوري، الذي يشتكي من ان المسؤولين الحكوميين لا يأخذونهم على محمل الجد: "نحن نكتب شعرا شعبيا بسبب حبنا واحترامنا الى تراثنا الادبي التقليدي." ويضيف انه حينما اعلنت الحكومة العراقية مؤخرا البصرة عاصمة للثقافة، لم يتم استدعاء اي من الشعراء الشعبيين الى الاحتفال.
الحب والامن من المواضيع المفضلة
معظم الشعراء، في الثقافة العربية المشحونة بالعواطف، هم على وشك الوقوع في الحب، حيث يكون الكثير منه بلا امل. لكن هناك تغيرا بين الجيل الشاب من الشعراء في البصرة. يقول المنصوري، الذي لا تقلقه الرومانسية اكثر شيء، بل ما يقلقه هو الحصول على عمل عندما يتخرج: "معظم الشعر الذي نكتبه يدور حول الوضع الامني والمأساة في العراق، وانا اكتب الشعر عن الارامل والايتام."
حينما يُسأل المنصوري ان يتلو شعرا مما يكتب، فانه يعقد حاجبيه، ويأخذ نفسا عميقا، ويقع في الحب مجددا. ينشد عن الفراق: "رحيلك نار لا تنطفي ولو شربت النيل."
يقول الحلفي، الذي يرتدي قميصا اصفر ذا مربعات، ويضع نظارة شمسية انيقة في وقت الغروب: "لقد تحولنا الى الشعر الوطني الذي يدعو الى التفاؤل اكثر منه الى الحزن. نرى الان القوارب تعود الى شط العرب والماء يبدأ في الصفو، والوضع يتحسن، والحمد لله. الان يطفو التفاؤل على قصائدنا."
ولكنه لم يختر ان يقرأ من شعره. وهو ينشد: "العاطفة مطلب. تقفز دقات قلبي لبعدك.. في لحظة مغادرتك، امسك بك، ثم اقفل راجعا، ولكني لا استطيع ان استعيد يدي."يقول إن من يكتب الشعر الشعبي هم الفقراء .يقول الحلفي، الذي يدرس الرياضيات، ان تلك الايام الصعبة قد ولت. ويضيف: "نحن متفائلون بالمستقبل. نحن نأمل ان يعود العراق كما كان سابقا... ان تُمسح جميع الدموع وان تُحل جميع مشاكل الشباب العراقي. الشعب العراقي اناس طيبون جدا. انهم يحبون الحياة، والاحداث التي مرت تثبت ان الشعب العراقي شعب طيب."هذا قول تسمعه المرة تلو الاخرى، في البصرة تحديدا. هذا القول الذي يترجم الى الانكليزية "اناس جيدون" يستعمله العراقيون الاخرون لوصف اهالي البصرة بالـ"طيبين"، بمعنى ذوي طبيعة حسنة. يعشق البصراويون مدينتهم الساحلية، او ذكرياتهم عنها، بنفس العاطفة التي تحملها امواج الاثير عبر اذاعة الرشيد في المساء.يقول عبيد، مدير المحطة: "لم استطع تحمل البقاء خارج العراق لاني احب مدينتي. لقد نشأت هنا. اتذكر اصدقائي وجيراني في كل ليلة، اصدقائي الذين ما يزالون على قيد الحياة، واصدقائي الذين فقدتهم."يصف عبيد، الذي ذهب الى عُمان، السنوات التي خضعت فيها المدينة للمليشيات بانها "جنون"، ويضيف: "حينها لم يكن بمقدوك ان تثق باي احد. كان يمكن ان تفقد حياتك في لحظة."وكان قد غادر العراق بعد تعرض صديقه فاخر حيدر، الذي كان يعمل مع جريدة نيويوك تايمز، الى الاختطاف على يد رجال يرتدون زي الشرطة، ومن ثم قتل في عام 2005. ويقول انه عاد ادراجه ليحاول ان يجعل الامور افضل في البصرة تخليدا لذكرى صديقه.
التعويض عن خمس سنوات من الاضطراب
يقول عبيد ان اكبر التحديات الان يكمن في التعويض عن خمس سنوات لم تجر فيها اعادة الاعمار. ترغب المدينة في اجتذاب المستثمرين، لكن هناك ساعات من انقطاع الكهرباء في كل يوم، وتعاني البنية التحتية من عقود من الاهمال.يقول عبيد انه بعد ان مرت السنوات الماضية، حينما كان العراقيون يستهدفون لتحدثهم لغة اجنبية، فان محطته تخطط لاذاعة اغان باللغة الانكليزية حالما يعثر على مذيعة، والتي تبعث على الراحة اكثر من الصوت الرجالي. وتبث المحطة 20 ساعة يوميا، ويصل بثها الى مسافة 65 ميلا (104 كيلومترات).
ويستطرد قائلا: "يحب الناس الاغاني الانكليزية، وهم يطلبون منا ان نبثها بعد منتصف الليل، فهم يبقون ساهرين حتى الساعة الثالثة صباحا، وهو الوقت الذي يرغبون في ان يستمعوا فيه الى تلك الاغاني."غير ان المحطة لابد من ان تضم عنصرا دينيا، طالما انها جزء من الثقافة. فهو يقول: "نحن نبث القرآن الكريم، تتلوه موسيقى كلاسيكية."

Thursday, May 07, 2009

بريطانيا تنهي وجودها العسكري في العراق

عن: الاندبندنت
ترجمة: علاء غزالة

تـُليت الاسماء الواحد تلو الآخر بينما كان عازف البوق ينشد لحنا حزينا. لقد حفل الوداع الاخير للعراق بتذكر اولئك الذين لم يستطيعوا ان يعودوا الى الوطن.وفي لندن، اعلن رئيس الوزراء، غولدن براون، نهاية العمليات القتالية رسميا، في صراع استمر اكثر من الحربين العالميتين. اما في البصرة، فقد كانت الاذرع تمتد لعناصر القوات البريطانية تودعهم بحزن بينما كانوا يقومون بآخر دورياتهم على امتداد الشوارع التي خاضوا فيها معارك حامية، وفقدوا فيها رفاقهم.وكان التورط البريطاني في العراق قد ابتدأ حين اشترك توني بلير مع جورج دبليو بوش في غزوه للعراق، الا انه انتهى يوم امس بنفس الارتباط الاميركي. وتم تسليم السلطة العسكرية في البصرة الى القوات الامريكية المؤلفة من 5,000 جندي، وهم الذين سوف يحلون محل القوات البريطانية التي كان تعدادها 3,800 عسكري.
وكان هناك شعور بين افراد القوات البريطانية في العراق منذ وقت طويل، بعد ان ارسلوا الى حرب لا تحظى بدعم شعبي، بان الناس لم يتفهموا طبيعة التحديات التي يواجهونها، وما قاموا بانجازه. يقول احد الضباط الشباب، والذي خدم ثلاث مرات هنا: "لقد ساهمت جدتي في المسيرات المناهضة للاحتلال. وكانت لدي شخصيا شكوك قوية ايضا. لكننا كجنود علينا أن نتبع الأوامر، وكل ما ينبغي علينا فعله هو ان نقدم افضل ما نستطيع، وان لا نسيء استخدام قوتنا. اعتقد اننا فعلنا اشياء جيدة في البصرة، لكني استطيع تفهم السبب في عدم رغبة العراقيين بوجود قوات اجنبية في بلدهم."
وفي حفل التأبين يوم امس الذي اقيم امام حائط يحمل اسماء القتلى، بدا ان هناك عزما جديا على عدم نسيان هذه التضحيات، في اقل تقدير. وقام الرفاق بتلاوة اسماء 234 من البريطانيين والقوات المتحالفة معها، بالاضافة الى المتوفين من المدنيين، بعزيمة وتحد.
وقال الاسقف العسكري الاب باسكال هانرانهام، خلال حفل التأبين الذي دام لساعة من الزمن: "كل اسم هو فريد، وكل اسم يخبر قصة. قصة ابن او ابنة، زوج او زوجة، اب او ام. كل اسم سوف يستدعي ذكريات قوية، ليس اقلها لدى العائلة والمحبين في الوطن." عزف البوقي لحن "المهمة الاخيرة"، بينما كانت طائرات التورنادو تزأر وهي تحلق بمستوى منخفض. ومن ثم، في تمام الساعة 2:46 مساءا انزل العلم الخاص بالفرقة المدرعة العشرين البريطانية، وهي آخر القوات القتالية المتبقية في العراق، وسط تهليل وتصفيق متقطع بين البريطانيين والاميركيين والوجهاء العراقيين. لقد انتهت المهمة العسكرية البريطانية رسميا.
ولا يمكن اغفال تغيب غولدن براون الذي كان في افغانستان وباكستان قبل 24 ساعة من هذا الاحتفال. وقد ترددت خفية اقوال بانه يريد ان يبتعد عن تلك المهمة التي علقت في شراك التجادل. بيد ان وزير الدفاع البريطاني، جون هوتون، الذي حظر الاحتفال فعلا، قال ان السيد براون لم يكن يتجاهل العراق، حيث انه التقى رئيس الوزراء نوري المالكي في لندن.
وقال وزير الدفاع ان تحقيقا سوف يفتح في المستقبل لتقييم التورط البريطاني في العراق، لكن علينا في هذا الوقت ان "نفتخر بقواتنا. فهم الافضل في العالم، ويجب ان نكون جدا فخورين بما حققوه من تمكين العراقيين في بناء الديمقراطية."
وكان اكثر من 15,000 عنصر في الجيش البريطاني قد خدموا في العراق. وسوف يتم تحويل القاعدة في مطار البصرة الى فندق، بينما سيضم المقر الاميركي الجديد حفنة من عناصر الجيش البريطاني. ستكون طبعات اقدام المملكة المتحدة على الرمال العراقية في المستقبل تجارية وسياسية، وهو احد اسباب استضافة السيد المالكي ومعظم وزراء الحكومة العراقية في مؤتمر تجاري في لندن.
يقول نايجل هايدوود، القنصل العام البريطاني: "لقد بدأ دورنا في التغير، ولن يكون عسكريا بعد الان. لكننا عملنا الكثير من الاستثمارات في هذا المكان وننوي بكل تأكيد ان يكون لنا وجود مؤثر هنا. يمتلك العراق مستقبلا اقتصاديا نابضا، ونحن نساعد في بنائه."
تمتلك البصرة حوالي 70 بالمائة من الاحتياطي النفطي العراقي، رغم أن تدني أسعار النفط يعني انه يتوجب تخفيض ميزانية المحافظات الى النصف. لكن ميناء ام قصر، حيث سيبقى فريق من البحرية الملكية لتدريب نظرائهم من العراقيين، هو مثال على الامكانية المستقبلية للاقتصاد العراقي، مع احتمال ان يتحول الى منطقة للتبادل التجاري الحر للمنطقة باسرها. وقام السيد هوتون بزيارة ام قصر قبل ان يضع باقة من الزهور على ضريح الشهداء في منطقة الحيانية بمدينة البصرة، والذي كان مخصصا لضحايا "علي الكيمياوي."
وتعد منطقة الحيانية من المناطق المعروفة للبريطانيين. فقد كانت معقلا للمليشيات ومن ثم صارت مسرحا للكمائن ضد الدوريات البريطانية وموقع اطلاق قذائف الهاون والصواريخ على مقرهم في مطار البصرة.
على كل حال، فان بادرة السيد هوتون تؤكد على الدور البريطاني في تحرير العراق من نظام صدام، وهو ما يكن له في جنوب العراق، على وجه الخصوص، الشكر والعرفان. بيد ان الاضطراب الذي اعقب الغزو في عام 2003 قد ادى الى وقوع الكثير من الضحايا
اذ فقد حاكم علي ابراهيمي، البالغ 58 عاما من العمر، اثنين من افراد عائلته في اعمال العنف قبل وبعد الحرب، كما تعرض هو نفسه الى السجن من قبل الشرطة السرية. يقول: "بدأ البريطانيون بشكل حسن في العراق وقد رحب بهم معظمنا حينما جاءوا. وكنا نكن التقدير اليهم لانهم لم يكونوا عدوانيين مثل الاميركيين، كما انهم احترموا حضارتنا. لكنهم سمحوا للمليشيات بان تكبر بحيث لم يعد بالامكان السيطرة عليها، ثم عانينا."
لا يستطيع هاني القادر، المعلم الذي لديه ست ابناء، ان يفهم كيف انه بعد مرور ستة اعوام من اعلان بوش النصر في الحرب رسميا، مازالت كهرباء المدينة غير صالحة. لكنه يقول: "غير إننا لا نستطيع ان نلوم البريطانيين والاميركيين فقط، فماذا عن سياسيينا ؟ الآن مع رحيل البريطانيين يتوجب علينا ان ننظر في انفسنا."
البصرة بالأرقام
3,302 هو اقل تقدير لعدد العراقيين الذين قتلوا في البصرة منذ بداية الحرب. وقتل 179 جنديا بريطانيا في العراق.
51% نسبة الاقبال على التصويت في الانتخابات المحلية التي اجريت هذا العام
هجومان صاروخيان على قاعدة المطار هذا العام مقارنة بـ 400 هجوم في العام 2005.

أطفال البصرة يتعلمون العيش مع الأمل

عن: الغارديان
ترجمة: علاء غزالة

أدت ثلاثون عاما من الحروب الى ازهاق ارواح عدد كبير جدا من الناس، بحيث اضحى نصف تعداد السكان من هذه المدينة من الأطفال حيث يتحدث مارتن جولف عن العنف المرعب الذي عاشوا فيه، وكيف يحلمون اليوم، مع تحسن الوضع الامني، في الهروب من الفقر والعيش في حياة طبيعية من العمل واللعب بسلام. من المعروف عن الاطفال في العراق انهم يكبرون قبل عمرهم، لكن الطفولة في البصرة، على مدى ثلاثة اجيال، ليست الا لمحة قصيرة من الزمن. ومع انتهاء الاحتلال، الذي كان يفترض ان يغير ولو جزئيا من هذا الواقع، فان حماة مستقبل البصرة اليافعين يتكلمون بايجابية عن السنوات القادمة. غالبا ما تترك المليشيات، التي تفشت في البصرة في معظم فترة السنوات السابقة، الاطفال لشأنهم، غير ان حياتهم العائلية وتعليمهم قد تأثرا بشكل كبير.
واليوم، بعد ان القى الاستقرار النسبي بظلاله عليهم فان اطفال المدينة يشعرون بحرية اكثر من اية فئة اخرى في مجتمع المدينة، وبالخصوص النساء، في الحديث عن حيواتهم واحلامهم.
وقد رحب الاولاد –تحديدا– بالملاعب الجديدة التي اتيحت لهم بعد العمليات العسكرية التي طهرت المدينة قبل 13 شهرا، وهم الذين طالما امضوا وقتهم في لعب كرة القدم في الشوارع. اما البنات، فهن يتحدثن عن امضاء المزيد من الوقت في المدرسة.
من الصعب الحصول على مؤشرات اجتماعية ذات دلالة في هذه المدينة التي بالكاد اقامت عماد نفسها على مدى عقود من الزمن. غير ان شذرات من احصاءات حول القطاعين الصحي والتعليمي، وهما الاكثر تأثيرا على الاطفال، تبين انهما كانا القطاعين الاكثر اهمالا من غيرهما من الخدمات في خضم سنوات العنف.
وقد ادعى المسؤولون الصحيون في عام 2006 ان نسبة الامراض التي تنتقل عن طريق الماء قد ازدادت بين الاطفال بنسبة 30% منذ بداية الحرب. كما ارتفعت نسبة الوفيات بين الاطفال الرضع بحدة.
اما ارقام الايتام في المدينة وحولها فقد كانت اكبر بكثير من المعتاد، وذلك يعود بالدرجة الاساس الى الحرب العراقية-الايرانية، التي حصدت ارواح رجال المدينة لمدة تقرب من عقد من الزمان، والتي انتهت عام 1988. وقد كانت جبهات القتال الامامية على مسافة ليس ببعيدة عن شمال شرق المدينة في معظم سنين الحرب.
وقد ازهقت ارواح اكثر من 600,000 من العراقيين في تلك الحرب، والكثير منهم من البصرة. غير ان حرب الخليج عام 1991 ادت الى ازهاق ارواح عدد كبير آخر، يضاف الى ذلك اعمال الانتقام الوحشية التي مارسها نظام صدام فيما بعد ذلك. واليوم، تجد الاطفال في كل مكان في البصرة، يقفون على ابواب خربة وهم يرتدون ملابس رثة، قد اضحوا سكان المدينة الاكثر هجرا، نموذجا للجوع والحرمان، لم يبق لهم الا امل ضئيل في الترفع عن ظروفهم.
تبقى ملاجيء الأيتام في احتياج مستمر، غير ان الطعام فيها جيد. فالطفلة صبيحة احمد ذات الاثني عشر ربيعا عاشت في الملجأ لمدة ثلاثة اعوام وتشعر بايجابية حول الحياة في البصرة. تقول: "استطيع ان اغني والعب وادرس. حياتي في تحسن مستمر وكذلك مدينة البصرة. اينما اذهب في المدينة اشاهد بنايات جديدة، والوان مختلفة، ومتنزهات جديدة، وعشب اخضر، ومطاعم. اريد ان يكون هذا هو مستقبل العراق."
لكن مازال امام مشاريع الاعانة الجديدة وخطط الاعمار، على قلتها، ان تصل الى الاحياء الاكثر فقرا في المدينة. ففي هذه الاحياء تعيش العوائل التي تحتوي على اكبر عدد من الاطفال. لكن الاطفال هم وثيقة تأمين مع الزمن، حيث ما ان يصلوا الى عمر معين حتى يتم تشغليهم.
فما ان بلغ طه ياسين عمر الاثني عشر عاما حتى اخرج من المدرسة وتم تشغليه في جمع العلب المعدنية لاعادة تصنيعها. يقول: "لا يستطيع والدي ان يعمل، فقد أصيب بالشلل نتيجة الحرب. يتوجب علي العمل لكي اوفر الاموال الى العائلة. نحن فقراء جدا. انا اقوم بجمع علب البيبسي الفارغة وبيعها بسعر 250 دينارا عن كل كيلوغرام واحد."
ويضيف: "ابدأ بالعمل في الساعة السادسة صباحا وانتهي في الساعة السابعة او الثامنة مساء. حينما لا استطيع العمل يهلكنا الجوع."
ويستطرد: "لقد التقيت بالبريطانيين مرات عديدة. وقد كانوا لطفاء وقدموا لي الشكولاتة في بعض الاحيان، وفي احيان اخرى اعطوني مالا."
لكن التحسن الامني المضطرد في الاونة الاخيرة جلب معه سيئات بالنسبة الى الاولاد المهووسين في كرة القدم، والذين ينصبون الملاعب اينما وجدوا مساحة مناسبة لذلك. ويتم اقامة المسابقات بين الاحياء على نحو منتظم، بين مستنقعات مياه المجاري والنفايات السامة المتروكة.
ويصدر المجلس المحلي بين آونة واخرى تحذيرا الى عامة الشعب لتجنب التعرض الى هذه المواقع، لكنهم ضحايا المستقبل، مثل ما هو الحال في كل ما يخص الاطفال في البصرة، هم تاريخ يَنتظر ان يُكتب.
فيما يلي قصص لاطفال تبدأ دائما مع الفقر والخوف في بداية الاحتلال. لكن نظرتهم الان اكثر ايجابية بالمقارنة مع ابائهم.
فاضل حسن، 15 عاما، عامل
في المجلس
"حصلت على عمل في المجلس قبل خمسة واربعين يوما، وانا في غاية السعادة. الحمد لله، سوف تتغير حياتي الان. احصل على 200 دولار كل شهر، وهذا اساس جيد لبناء حياتي. كل شيء يسير نحو الاحسن هنا.
"حينما يتقوى المجتمع تأتي التجارة وكذلك الاستثمارات والزراعة.
"لقد ساعدنا البريطانيون. فقد كنا غارقين في مياه المجاري ويغشانا الظلام والامراض قبل ان يأتوا. انا اشعر ان الوضع اصبح اكثر امنا واكثر حرية بمقدار سبعين مرة. وانا احلم بتكوين اسرة وبناء منزل."
كوثر صادق، 13 عاما، يتيمة تعيش في ملجأ الزهراء
"عشت هنا منذ وفاة والدي قبل سبع سنوات. لدي سبع اخوات وحينما جاءت الحرب اصبحت الامور مرعبة بالنسبة لنا. لكني ادرس الحاسوب في المدرسة الان واشعر بالامان حينما استمع الى الموسيقى والاناشيد الدينية المفضلة لدي. كما انني اتمتع بالمهرجانات والاحتفالات الاخرى. اريد ان اصبح خبيرة بالحاسوب. "آمل اننا قد تجاوزنا احلك الاوقات.
علي نجم، 15 عاما، طالب في اعدادية الكفاح
الامور احسن الان 100%. هناك المزيد من الاستقرار، لكن الاشياء السيئة مازالت تحدث. بات بامكاننا الاحتفال والشعور بحرية اكبر من قبل. لكني مازلت خائفا. اريد ان اساعد في جعل هذه المدينة هي الافضل في الخليج.
"حينما فاز العراق بكأس اسيا لكرة القدم، اقمنا احتفالاتنا بالدفوف والاغاني. لكن اعضاء المليشيا اعتقلوني وحلقوا رأسي. لقد منعوا أي شخص من التمتع بتلك اللحظات.
لقد مضى عقد من الزمان او يزيد من الاهمال وهناك الكثير من العمل لينجز هنا. نريد مكتبات ونحتاج الى نواد رياضية ومدارس موسيقى.
غير ان حياة عائلتي قد تحسنت. فبعد العام 2003 عمل والدي في سوق السيارات وقد ابلى بلاء حسنا. لم تكن هناك قيود مثل التي كانت في زمن صدام. لقد تم بناء مدرج لملعب، ولكنه بعيد جدا عن المدينة ونحتاج الى المزيد.
"طموحي ان اصبح ضابطا في الجيش. احب بلدي واريد ان اكون مخلصا له. واريد ان ادحر الاعداء في المستقبل."
مهدي عبد الله، 15 عاما،
عامل بناء
وجدت عملا في البناء منذ ستة اشهر. احصل على 130 دولارا في الشهر. تركت مقاعد الدراسة مبكرا، لاني اضطررت الى ذلك. ليس لدى عائلتي أي مورد.
"احلم بان يستمر الاستقرار هنا وان يجد الناس عملا وان يعيشوا حياتهم بكرامة. انا لا اطلب ثروة او كنزا. كل ما اصبو اليه هو الكرامة المجردة. اشعر بالارتياح الان لان لدي عملا. اريد ان اتزوج وان اعيل نفسي وعائلتي.
"تعوم البصرة على بحر من النفط. وقد كان لها على الدوام وسائل للحفاظ على الناس فوق الماء (تمنعهم من الغرق). بامكاننا ان نرفعها اكثر فاكثر، ونتحول الى مرحلة جديدة من حياتنا هنا."
نور مناي، 15 عاما، طالبة
في اعدادية الفراهيدي
"فررنا من منزلنا في حي الشعب ببغداد قبل ثلاثة اعوام بسبب العنف. وقد ظن والدي ان البصرة ستكون اكثر امنا. وقد كانت كذلك باديء الامر، لكن المليشيات خربت الوضع الامني. اما الان فقد بدأ الامر ينعكس نحو الاحسن من جديد.
"بعد شن العملية العسكرية التي أجلت المليشيات (في آذار 2008)، تركني والدي اذهب الى المدرسة بدون ان يصحبني احد. وكان هذا هو الوضع في السابق.
"لكني لم استطع الذهاب الى المدرسة طوال العام 2006. وصعب علي التفكير حينذاك بانني قد لا اكمل دراستي. لكن والدي وعدني بان الظروف سوف تتغير. وقد تغيرت بالفعل. انا سعيدة للغاية.
"بامكاني الان الذهاب الى السوق وزيارة الاصدقاء، لكن مازلنا نفتقد النوادي الرياضية ودور السينما والمسارح. ارغب في ان اصبح عالمة حاسوب وان اساعد والدي، فهو مهندس وقد اصبح موسور الحال الان."
عمار موسى، 12 عاما، بائع رصيف يبيع العلكة والمناديل
"عملت في هذا التقاطع منذ عام 2003 وقد اصبحت الامور افضل بكثير. زاد دخلي واستطيع العمل بامن بدون انفجارات. استطيع ان ابقى هنا من الصباح الباكر وحتى منتصف الليل، في الصيف والشتاء. يمكنني شراء الملابس والطعام.
"اعيش مع امي وابي واخواتي الاربع، كما حصل والدي على عمل يومي. لقد كان من النادر ان يعمل في عام 2007.
"اذا بقي الوضع الامني على ما هو عليه الان، فسوف يأتي السلام الينا جميعا. وعندها ربما احصل على عمل افضل.
محمد منهل، 9 اعوام، تلميذ مدرسة ابتدائية
"لقد تحسنت حياتي كثيرا مؤخرا. تدعني والدتي العب كرة القدم والتنس ورياضات اخرى مع اصدقائي، حتى وان كانت صالة اللعب بعيدة عن المنزل. ونحن نلعب في الطرقات لساعتين بعد الظهر واستطيع ان افعل أي شيء معظم الاوقات.
غير ان المشكلة الكبرى في حياتنا هي الكهرباء، خصوصا في الليل. نحن نحتاج اليها في الدراسة ومشاهدة قنوات الرياضة على التلفاز. لقد كان هناك تحسن ضئيل، لكننا نحتاج اليها على مدى 24 ساعة، وليس لست الى عشر ساعات التي نحصل عليها الان. اريد ان اصبح مهندسا في يوم من الايام لكي اصلح الكهرباء.
"قبل عام 2007 حبستني امي في المنزل بسبب الوضع الامني في البصرة. كما انها لم تدعني حتى ان اذهب الى المدرسة، ولم استطع اللعب خارجا ابدا. وهي تقول ان الكثير من الاطفال اختطفوا في البصرة. لكن كلانا يشعر بالارتياح اكثر الان.
"وقد ذهبت في الصيف الماضي الى سوريا لقضاء العطلة. وفي ايام الجمع نذهب الى المتنزه او الى النهر. غير ان مدرستي ليست جيدة. فهي قديمة ومتهالكة ونحن بحاجة الى تجهيزات وطرق تدريس جديدة."
صبيحة احمد، 12 عاما، منظمة الزهراء للايتام
"اتيت الى هنا قبل ثلاثة اعوام، بعد ان توفي والدي. وقد عشت حياة طبيعية. احب مدرساتي، وهن في غاية اللطف معي وجيدات في تدريسهن. انا ادرس في مدرسة الزهراء الابتدائية وهم ينظمون الكثير من الاحتفالات، مع اداء مسرحي ومعارض فنية. اريد ان اصبح محترفة موسيقى في يوم من الايام.
اوس فؤاد، 15 عاما، طالب
في اعدادية الكفاح
"كانت الامور مأساوية هنا قبل عام 2003. فقد عشنا في الجبهة الامامية لثلاثة حروب وعانينا اكثر من أي المحافظات العراقية الاخرى. لقد عشنا في فقر مدقع. وكانت هناك مشاكل في القطاع الصحي والقطاع التعليمي ولم يكن بامكاننا تحمل نفقات الذهاب الى المدرسة. وقد حصل والدي على عمل في جامعة البصرة حيث كان راتبه عشرة دولارات في الشهر فقط.
"لدي ثلاثة اخوة واختين. وقد تركتنا امنا بسبب ظروفها. لكن بعد عام 2003 حدث تحول في حياة عائلتي. اصبح والدي معاون عميد احدى الكليات في جامعة البصرة، ويصل راتبه الان الى الفي دولار في الشهر. وقد عدت الى المدرسة وكذلك عاد اليها اخواني واخواتي.
بإمكاني الآن أن العب كرة السلة، التي احبها كثيرا، وبامكاننا الولوج الى شبكة الملعومات الدولية (الانترنت). كما نستطيع التفكير بالسفر.
"وقد تحسنت الامور مرة اخرى عام 2008. يمكنني الان ان ارتحل في سفرة مدرسية والبقاء خارج المنزل حتى الساعة العاشرة او الحادية عشرة مساء. اريد ان اصبح طبيبا حتى اعتني بالاجيال القادمة من اطفال البصرة، فهم يستحقون الافضل."
حامد جاسم، 11 عاما، عامل خردة
"اعمل مع اطفال اخرين لكي نكسب بعض المال من اجل عوائلنا. توفي والدي نتيجة المرض عام 2005. ويعمل معي ايضا اخي الاصغر واسمه علي ويبلغ تسعة اعوام من العمر.نبدأ العمل في الساعة الخامسة من صباح كل يوم، لاننا اذا نهضنا للعمل باكرا فسوف نجد المزيد من الخردة لنجمعها. نحن بالكاد نستطيع ان نوفر طعامنا.
"نحن نعيش في مبنى مدمر تابع للامم المتحدة. ليس هناك من جدران في هذه البناية، لكننا مع ذلك في حال افضل من حالنا عام 2007. واحصل على دولار واحد او دولارين كل يوم، لكن الحياة بدأت تسير نحو الافضل. فقد تحسن دخل عائلتي، وإذا عملت بجد اكبر احصل على ايراد اكثر. اريد ان اعمل في المجلس في المستقبل، او ان اصبح جنديا.
"السلام هو الكنز الاثمن في حياتي. انه يعني اننا يمكننا ان نعيد بناء الاشياء، وان نلعب في بعض الاحيان مع الاصدقاء."