عن واشنطن بوست
ترجمة: علاء غزالة
ربما تكون الاطلاقة الوحيدة التي سمعتها منذ عدة ايام في حي سكني كان في الماضي يسوده اطلاق النار. ربما تكون الابتسامات في نقاط التفتيش، وصياح رجال الشرطة العراقيين المارين خلال زحام الشوارع الدائم. «رحم الله والديكم، بارك الله فيكم.» ربما يكون صوت جهاز التسجيل الذي مازال يعزف موسيقى عيد الميلاد في محل صغير ممتلئ بزينة عيد الميلاد والوسائد الموشحة بالقلوب الحمر. من امضى فترة من الزمن في احلك ايامها قبل عامين، حينما كانت مشلولة بالكره الطائفي وخاضعة الى سيطرة المسلحين الذين عملوا على نشر روح اليأس، فانه لا مناص له من الاقرار بالتغيير الحاصل، حينما يعود ليراها الان.
يقول بائع الرصيف حيدر العبودي: «لقد انتهت الحرب.»
حقا لقد انتهت الحرب في العراق، في الاقل من ناحية الصراع الذي تعلمناه في السنوات الخمس الاولى: التمرد، التطهير المناطقي، معارك العصابات والخارجين على القانون، والامل البعيد في الخلاص. وبكلمات اخرى، الحرب الاهلية، برغم انها لا ترقى الى التعريف بمصطلح الحرب الاهلية. وقد بدأ العلاج، حتى الان، في اخذ مفعوله. وهو الحال ايضا بالنسبة الى الكثير من القوى التي انفلت زمامها مع الغزو الاميركي عام 2003، محولة العراق الى ارض مقسمة تتملكها القسوة المفرطة. في ذلك (العراق) كان الاميركيون هم الحكم الاخير، ونتيجة لذلك جردوا كل شيء تركوه وراءهم من الشرعية.
من نافلة القول ان هناك سِلم في العراق. حيث لا يقتل كل يوم في العراق الا نحو نفس العدد الذي سجل في عامي 2003 و2004. ولابد كذلك من القول ان هناك نصرا. حينما تتم ترجمة هذه الكلمة الى العربية فان اي عراقي يرسم ملامح تعجب على وجهه. نصر على من؟ بالتأكيد ليس على عشرات الالاف من المدنيين، وربما اكثر من ذلك بكثير، الذين قتلوا في المصادمات الجنونية مع تلك القوى الغامضة.
لكنه اليوم التالي.
تبدو بغداد كثيرة الشبه بجنوب لبنان بعد الحرب غير المتناظرة بين اسرائيل وحزب الله عام 2006، نهض الناجون من بين حطام منازلهم ومكاتبهم ومحالهم التجارية مع ابتسامة الرضا عن نجاتهم. في زمن الحرب، ذلك هو نصرهم. ثم استوعبوا الدمار الذي تركه القتال حولهم. لكن ملامح وجوههم تجهمت حينما ادركوا المهمة التي امامهم.
لربما يكون هذا هو اليوم السابق، كذلك.
يقول شيدراك جورج، احد الذين شهدوا سقوط التمثال يوم 9 نيسان 2003: «لا نعلم ماذا سيحدث لاحقا.» في ذلك اليوم شاهد رجالا يضربون تمثال صدام بالسلاسل والمطارق قبل ان يفسحوا المجال لدبابة المارينز ان تسقط التمثال ارضا. لقد توقفت المركبة بلا داع. لم يكن عليها ان تفعل ذلك.
يقول ان كل شيء يبقى «غامضا» وغير واضح.
ويضيف: «نريد ان نعرف كيف ستسير الامور.»
مدينة الجدران
اطلق سكان مدينة بغداد، على مدى 1250 عاما من تاريخها، اسماء كثيرة عليها. سماها مؤسسها ابو جعفر المنصور مدينة السلام، وقد بناها لكي تكون عاصمة له واحاطها بأسوار مدورة. بلغ كمال استدارة هذه الاسوار حدا دفع بعض المعاصرين للاعتقاد بان تلك الجدران قد صُبت صبا في قالب.
اما بغداد في زمن صدام فقد كانت شهادة على مرضه في الشعور بالعظمة، باطرافها المتباعدة وفخامتها المشوهه. وبعد سقوطه تم تجريد المدينة من حلتها لتكشف عن ابنية من الطابوق والطين، ضعيفة مثل سكانها. لقد اضحت مدينة القناديل الزيتية وسط الظلمة الشديدة، مدينة اشباح يظللها الخوف، مدينة مهجورة. ثم ما لبث ان جاء معمار الاحتلال، متهاويا عليها كالستائر، جدرانا إسمنتية مستوية ومقرفة، ذات لون رمادي غامق كئيب.
بغداد الان هي مدينة هذه الجدران.
يبدو حي الدورة مثل سجن شديد الحراسة، تكمل صورته ابراج الحراسة الصدئة. وفي السيدية لا يوجد الا مدخل واحد، حيث يصل احيانا طول السيارات التي تنتظر عبور المدخل اكثر من كيلومتر ونصف، ومدينة الصدر مقفلة ومقسمة الى ثلاث مناطق. اما حي العامرية فمحاطة من جميع الجهات. وهو حال احياء الحرية والشعلة والبياع والعامل. لا يستطيع من في الخارج ان يرى ما بداخلها، ولا يستطيع من في الداخل ان يرى شيئا خارجها.
وعلى مدى عامين لم يتغير الا اوجه الجدران.
تعلن لافتات الجدران الان عن الجيش العراقي المتفاخر: «لواء الاسد يبقى اسد» وهي تحذر: «احترم لكي تحترم.» وتوجه التحية: «عاش العراق الجديد.» وهي تخدم كارضية للوحات زيتية تتخطى تاريخ العراق العربي المعاصر الى التاريخ الاقدم، زمن مجد السومريين والبابليين. تحمل الجدران لافتات الاعلان عن وكالات السفر، ومحال الصيرفة، وسماسرة العقارات التي تحميها الان (أي التي تقع خلفها). كما انها تحمل انماطا مكررة للازهار، كانت قبل وقت ليس بالبعيد اكثر رواجا في ملصقات الشهداء.
الاهم من كل ذلك ان الجدران تخفي ما خلفها.
وصف رئيس مجلس النواب السابق ما خلفه الاميركيون وراء هذه الجدران بالقول: «دولة محطمة.» قال ذلك محمود المشهداني بغضب قبل ان يستقيل من منصبه في كانون الاول. لكن لقوله صدى، سواء في العراق ككل، تلك البلاد الناعسة التي تسودها ظلال من اللون البني، لون الفقر، ام في بغداد، المدينة التي يبدو كل شيء فيها هذه الايام ملتويا وممزقا. تتخللها الاسلاك الشائكة التي فقدت بريقها. وفي كل جزرة وسطية اكوام من التراب والانقاض. وعلى كل رصيف قمامته الفجة.
تبدو نهاية الحرب هذه وكأنها هدنة اكثر منها معاهدة، تهدئة اكثر منها مصالحة. ليس هناك انتعاش او نهضة، لا احتفال. انها تعّرف نفسها على انها رفع حصار، لا اكثر.
في الساحة المدورة التي عرفت مرة باسم ساحة علي بابا، يتدفق الماء احيانا من نافورة برونزية تجسد كهرمانة، الفتاة الأمة التي غلبت بمكرها الاربعين حرامي، تلك القصة التي اوردتها حكايات «الف ليلة وليلة.» يلعب الفتية لعبة البليارد على مناضد رصفت بموازاة نهر دجلة الجاري وئيدا. تجلب الشاحنات المصطفة على طول شارع ابو نؤاس السمك الحي، الذي سوف يُقدم في اطباق الـ(مسكوف)، الأكلة العراقية بامتياز.
وفي ساحة الفردوس، حيث اتاح تمثال صدام ، ذات مرة، الطريق امام الدبابات الاميركية التي كتب على مواسيرها: «الفتى الوحشي» و»شهوة الدم»، تعلوها سماعات المدرعات الاميركية تصدح باغنية «حلقة النار»، هناك التقط طالبان، هما حسين العباس وامجد عبد الحمزة، صورة لكل منهما الاخر قرب معالم المتنزه.
قال عباس: «انها للذكرى.»
وخلفهما يمكن قراءة ملصق يقول: «القانون يبني الامم.»
غالبا ما يصف المسؤولون الاميركيون هذا (العراق) بمصطح (هش)، وهو حقا كذلك. ومع ذلك، وفي هذه الاثناء، يشعر البلد انه قد يتعافى، من الناحية الاقتصادية إن لم يكن من الناحية المظهرية، ببركة الاحتياطيات النفطية الاكبر في العالم. يبدو هذا البلد متهاويا، وان كان بمقدوره ان يبقى بلاحول ولا قوة، معتمدا على الولايات المتحدة التي يبدو انها عازمة على التحكم بمستقبله.
من اجل الحصول على السلطة هناك عدة وسائل، منها سلسلة الانتخابات هذا العام، والمال، والسلاح، والاضطهاد، والوسائل الاخرى الشائعة. يبقى الطيف بين هذه الاقطاب معتمدا على مسألة السلطة، وهو يغذي معظم مظاهر الحياة في العراق اليوم.
يكرر الاميركيون قول كلمة (هش). الكثير من العراقيين يقولون (خطر)، يستعد للمزيد من العنف.
تقول امل سلمان: «الهدوء يسبق العاصفة دائما.» وهي تعيش مع عائلتها في الكرادة، على شارع اصطف فيه باعة الرصيف الذين يعرضون قبعات خطت عليها اسماء باللغة الانكليزية. ويعرض كشك صغير ملصقات لصابون تركي اصبح مطلوبا في بغداد واماكن اخرى من العالم العربي. وما تلبث ملصقات المطرب العراقي الشهير حسام الرسام ان تنفد لكثرة الطلب.
سجلت امل سلمان سقوط صدام في مذكراتها، وكانت في الثالثة عشرة من العمر عندما كتبت عام 2003: «لا احد يدرك انهم قد ذهبوا جميعا الى الابد.» وبقيت متفائلة حتى في احلك فصول بغداد: «سوف تغيب الشمس اليوم، ولكنها دائما تشرق من جديد. كل شيء ينهض من جديد.» ثم تقول: «لا اعرف كيف اعبّر عنه، ولكني افهمه.»
اما الان وقد بلغت الثامنة عشرة من العمر فهي قلقة.
تقول: «يكون الخطر الاكبر، على الدوام، حينما يسود الهدوء.»
مع مشهد مركبة الانقاذ التابعة الى البحرية الاميركية وهي متوفقة عند ساحة الفردوس يوم التاسع من نيسان عام 2003 بعد ان أدت دورها، من الصعب ان نتصور ان الولايات المتحدة قد تفهمت، بصدق، البلد الذي ورثته اليوم. هذا البلد الذي نهشته الحرب والطغيان، وتغمره المشاعر المتناقضة تجاه المستقبل، ويملأه الحنين الى الماضي. لم يخضع ابدا الى البديهيات الاميركية. لم يمتثل ابدا الى نموذج الولايات المتحدة فيما يجب ان يكون عليه.
وفي غضون اشهر، انطلق عنان القوى غير المتوقعة والتي ستشكل العراق قريبا، حركة تحررية استيراد المتطرفين الاسلاميين، التركيز على الهوية الطائفية والعرقية، وبدء ثقافة حمل السلاح خارج القانون.
واليوم يبدو ان الكثير من هذه القوى قد اتخذت دورتها كاملة.
يقول وميض ناظم، الاستاذ في العلوم السياسية الذي يسكن في منطقة الاعظمية، وهو يجلس الى طاولة غداء شتوي: «هناك عدم تكامل في عموم النظام الطائفي في العراق. بعضهم يسعى الان لغسل ايديهم من الدماء التي لوثتها.»
اصبح الحي الذي يسكنه هادئا، بعد ان كان ذات مرة غاية في الخطورة. لم تكن هناك رشقات متقطعة من العيارات النارية، ولا الاصوات القارعة للطائرات العمودية. لم تكن بوابة منزله مقفلة، ولم يكن باب المدخل مقفلا.
ماطل ابنه جمال في الموافقة، ولكنه وجه بعد ذلك انذارا.
حذر والده بالقول: «مازال الجمر وضاء.»
افضل ما توصف به السياسة العراقية هذه الايام هي: الزئبق. القفز، الدحرجة، التكاثف، الدفع والجر من قبل قوى تبدو دائما خفية وغير منظورة..
لقد كان الشيعة العرب والسنة العرب والاكراد على الدوام تمثيلا مبسطا للعراق. لم يعد للامر معنى اليوم مع كل هذه التحالفات المتفجرة التي تسعى للاجابة على السؤال الكامن في قلب الحياة السياسية العراقية اليوم: ما هو مقدار سلطة الحكومة المركزية في بغداد، واي تحالف مصالح سوف يحوز على تلك السلطة في بغداد؟
يقول عبودي، بائع الرصيف في حي الكرادة المزدحم، وهو جالس امام معروضاته من الالبسة الرجالية : «لقد اختفت ألسنة اللهب. هذا صحيح. لكن الحرب مستمرة بين السياسيين. حتى هذه اللحظة هناك عراك شديد يدور بينهم.»