عن: واشنطن بوست
ترجمة: علاء غزالة
ابو غريب – في منتصف نهار يوم الثلاثاء 11 آذار كان هناك انفجار، اعقبه اطلاق نار، ما ادى الى مقتل 33 شخصا. اختلطت اشلاء من اجسام الضحايا مع مياه المجاري والازبال وفضلات الطعام الفاسدة. وفي منتصف نهار الاربعاء لم يتبق سوى الاطلال. هذه الاطلال المتخلفة عن هجوم يوم الثلاثاء، وهو احد هجومين وقعا في الاسبوع الماضي واديا الى مقتل العديد من الاشخاص في العاصمة وضواحيها، تمثلت في اغلفة الاطلاقات الفارغة الملقاة على قارعة الطريق، تعكس ومضات من شمس الصباح. تلك الاغلفة هي ما تخلف عن الاطلاقات التي يتهم الناجون الجنودَ باطلاقها عليهم في خضم الفوضى والارتباك الذين اعقبا الانفجار.
يقول رحيم عبد الله، الذي فقد عمته وابن عمه: "لن يحاكمه الاميركيون ولا العراقيون. سوف يمثل لعدالة السموات." (في اشارة الى المفجر الانتحاري). في عام 2003، حينما بدأت الولايات احتلالها، كان التفجير الذي يؤدي الى نصف عدد الضحايا الذين سقطوا في تفجير الثلاثاء يعتبر مؤشرا على ان الولايات المتحدة قد لا تحرز النصر. اما اليوم، ففي الوقت الذي يبدو الاميركيون وحلفاؤهم من العراقيين يحققون نصرا، فان هذا الهجوم لم يتمكن حتى من ان يتصدر عناوين الصحف الحكومية على صفحاتها الاولى.
يقول محمد عواد، وهو قريب لاحد الضحايا، والذي كان واقفا قرب المشرحة تحت الشمس التي غسلت لون ابو غريب: "لم يعد احد يولي الضحايا اية قيمة." وحتى قبل سقوط نظام صدام، كان لـ(ابو غريب)، وهي منطقة معزولة في ضواحي بغداد الغربية، قيمة معنوية. فقد كان السجن الكائن في هذه المنطقة اسوأ معتقلات النظام؛ مكان ينطق اسمه بالرعب من ارهاب النظام الدائم. وحينما اصدر صدام قرار العفو الذي افرغ السجون في تشرين الاول من عام 2002، كان ذلك تمهيدا للفوضى التي اراد لها ان تستمر ستة اشهر في الاقل بعد سقوط النظام، في الوقت الذي خرجت البلاد باكملها من زنزانات السجن الى ضوء الشمس. وتحولت (ابو غريب) الى محور للتمرد، حتى باتت واحدة من اخطر المناطق العراقية. وقد استولى الجنود الاميركيون على سجن ابو غريب، ومن ثم التقطوا صورا فوتوغرافية تعكس معاملتهم السادية لنزلاء السجن. وفي يوم الاربعاء، وهو اليوم التالي لتفجير السوق، تحولت (ابو غريب) الى رمز للموت المجهول، في صراع مازال يسقط المئات من الضحايا كل شهر، حتى مع عودة الاحساس بالحياة الطبيعية.
جُمعت بقايا اللحم البشري في كيس اسود من البلاستك والقي قرب السوق، المؤلف من اكشاك من القماش الممزق والبطانيات المهترأة، والخشب والحديد المزعزين. مازالت رائحة الموت العفنة تفوح من البرك الطينية المختلطة بالدم وقد تحولت الى لون بين البني والاحمر. وعلقت اكياس من البلاستك بالاسلاك الشائكة التي راحت ترتجف مع هبات الريح الحزينة. وعلى الجدارن الكونكريتية رسمت لوحات للطيور والانهار والنخيل وغروب الشمس، بما لا يتوأءم مع طبيعة المكان الذي اصطبغ، من نخيله المُغبر الى حشيشه اليابس، بلونين رمادي وبني.
كتب على الحاجز الكونكريتي عبارة: "ممنوع الوقوف" في نفس المكان الذي توقف فيه اللواء مارد عبد الحسن يوم الثلاثاء ليتجول في ذات السوق قبل ان يهرع المفجر الانتحاري اليها بسيارته المفخخة ليفجرها وسط جموع الناس من الرجال والنساء والاطفال. يقول احمد ناجي، الذي يرقد اخوه علي في المستشفى، وقد انفذ انبوب الى انفه لكي يسحب الدم من جرحه: " لن ننسى. لن ننسى ما حدث."
كان علي يعبر الطريق حينما رمى المعتدي، الذي كان يرتدي زيّ رجل شرطة، بنفسه على اللواء عبد الحسن. وقذف عصف الانفجار ابنة علي الرضيعة، واسمها آية، من بين يديه لتطير في الهواء وتسقط على الارض.
ويقول عن نجاته ببساطة: "الحمد لله."
يقول اخوه احمد: "لقد كان مثل يوم سقوط بغداد، لا بل اسوأ من ذلك." يقول اللواء عبد الحسن ان المتمردين اطلقوا النار على رجاله، ما ادى الى اشتباك بالاسلحة النارية، حمى وطيسها بينما كانت سيارته تبتعد عن المكان. ولكن رجال الشرطة المتمركزين في المنطقة يلقون باللائمة على الجنود المرافقين لقافلة اللواء لاطلاقهم النار عشوائيا. ويصر الناجون، ويوافقهم في ذلك الاطباء والعاملون في المستشفى، على ان جنود السيد اللواء فقدوا – ببساطة – السيطرة على الموقف، بان انهالوا بالاطلاقات على الناجين بينما كانوا يشقون طريقهم خلال السوق.
يقول علي: "لقد تعرض كل من كان في حال الحركة الى اطلاق النار."
بينما قال رجل آخر، وهو يئن تحت وطأة جراحه: "لقد كانوا مثل جيش احتلال."
بدا احمد تحسين، الذي يبلغ 12 عاما فقط، اصغر من عمره نظرا لنحافته. وكان يبيع الاكياس البلاستيكية في السوق مقابل 20 سنتا. وقد مات ابوه في حادث سيارة قبل الحرب، وهجرته امه. وقامت اخته غير الشقيقة، نورا، بتنشئته، هو واخوه حسام. بكى احمد وهو يئن في الغرفة المجاورة، بينما كان الطبيب يحاول ان يدس انبوبا في انفه لاستخراج الدم المتخلف من جراحة اجروها له لاستئصال اجزاء من امعائه واحشائه الداخلية. فقد تمزق طحاله، على حد تعبير الطبيب. بكى احمد مجددا وهو يقول: "لا استطيع احتمال الالم."
صاح به الطبيب: "اسكت! ما افعله هو في صالحك." وتوسل الصبي، وهو يتكور في البطانية التي القيت عليه: "لا تدعوه يضعه في انفي. لا تدعوه يفعل ذلك. ارجوكم تكلموا اليه."
اتكأ اخوه الى جدار متسخ وقد اجهش بالبكاء.
قال حسام: " ما الذي فعله ليجني هذا؟ لماذا؟ انه لم يفعل أي سوء."
مالت الشمس الى المغيب. انها تفعل ذلك في العراق، لا تمل ولا تسأم. وقف عبد الله وعواد الى جانب ثلاجة المشرحة، وقد تجمع العرق على جباههم بانتظار تسلم جثامين اقربائهم. لم يكن بامكانهم القدوم في الساعات التي اعقبت الهجوم، فقد اغلقت كل الطرقات. يقول عبد الله: "لم يسمحوا لاي احد بالمرور. لم يسمحوا حتى لشخص واحد بالدخول او الخروج." وكان قد ذهب في تلك الليلة لاستلام جثة ابن عمه، رعد صابر، وكان يبلغ 28 عاما من العمر. ثم عاد يوم الاربعاء ليدفن عمته، بركة حسين خلف والتي كانت تبلغ 63 عاما. وكان جثمانها محفوظا في الداخل، مع تسعة جثامين اخرى وبقايا من ساقيْ المفجر الانتحاري.
قال عبد الله: "انه لكابوس. وددت ان اعرف الحوار الذي يدور بينهم الان. آمل انهم يسالونه لماذا قتلهم. اريدهم ان يعرفوا اجابته." تقع مقبرة الكرخ على مبعدة كيلومترات عن السوق، والذي بدا مهجورا يوم الاربعاء، الا من قليل من باعة الرصيف الذين يعرضون الطماطم والباذنجان والقرع والموز والبرتقال إضافة الى البطاطا التي تشتهر بها (ابو غريب). عند مدخل المقبرة جلس كاتب خلف منضدة. قرأ الاسم الاول: "رسول فاضل عباس"، مواليد 1988. "عبد المجيد حميد احمد"، مواليد 1995. "محمد خضير"، مواليد 1998. ثم تلا اسماء ثلاثة عشر آخرين من الضحايا. اما سبب الوفاة فهو واحد لدى الجميع. قرأ: "نتيجة انفجار". تم دفن الجثث تحت اكوام من التراب الذي كان معدا لذلك. كتبت الاسماء بخط اليد على الواح كونكريتية زهيدة الثمن. وغرست سعفة نخيل في التراب مع كل قبر. وبين الفينة والاخرى تتعالى اصوات الحزن. تحرك الجمع وئيدا قرب اشجار الكالبتوز، تعظيما لطقوس الدفن.
قال اكرم احمد، حفار القبور: "فليرحمهم الله."