Tuesday, December 16, 2008

جندي التعاسة .. يقاتلون في معارك موازية في العراق: المتعاقدون الخصوصيون غير منظورين رسميا حتى عند موتهم

عن: واشنطن بوست
بقلم: ستيف فاينارو
ترجمة: علاء غزالة

بينما كانت طائرة الخطوط الجوية الاميركية المرقمة 1860 تقترب من البوابة رقم 4 في مطار بوفيلو نياغرا الدولي، جاء صوت الطيار عبر المذياع الداخلي مناديا: "انتباه رجاء. نحن نحمل هذه الليلة معنا جثمان احد الاميركيين الذين قتلوا في العراق. الرجاء ان تبقوا في مقاعدكم من اجل تسهيل نقل الجثمان، ولتسهيل مغادرة مرافقيه الطائرة". ساد الصمت في مقصورة الطائرة. لم يتحرك احد عندما نهض رجلان كانا يجلسان في الصف الامامي ليأخذا حقائبهما. الرجلان هما ضابط الصف، ذو القفاز الابيض، المرافق لجثمان جوناثان كوتي من قاعدة دوفر الجوية في ولاية ديلاوير، ورجل امن اميركي والذي استطاع ان يجد الجثمان المقطوع الرأس بعد 16 شهر من البحث في جنوبي العراق.
تم اقتياد الرجلين الى المدرج، وتسلق ضابط الصف الى بطن الطائرة. ثم القى العلم الاميركي على النعش الفضي وتأكد من ان جثمان كوتي قد وضع على مسافة القدم الاول من الحزام الناقل.
كانت السماء تمطر غيثا خفيفا، وبلغت درجة الحرارة 5 درجات مئوية. هبت ريح من جهة بحيرة (ايري) لتعصف بستة من الاعلام التي حملها اعضاء مجموعة دراجي الحرس الوطني في نيويورك، وهي مجموعة متضامنة مع عوائل القتلى الاميركيين في العراق. القت اضواء سيارات الشرطة ومعدات فرق تلفزيون بافيلو ومضات من الضوء والظل على الطائرة. يمكنك ان ترى المسافرين من الارض وهم مسمرين الى مقاعدهم في المقصورة المضاءة، بينما انتظر حمالو الامتعة على جانب المدرج حيث وضعت موانع برتقالية براقة وحواجز منتظمة.
وقفت مع عائلة جون تحت جناح الطائرة، متلقيا هبات الريح الباردة. حمل خمس رجال وامرأة من كتيبة القوة الجوية الوطنية 107 في نيويورك، حملوا النعش وساروا وئيدا عبر المدرج نحو عربة نقل الجثامين المنتظرة.
ربما يظن أي مشاهد انه يشهد العودة الحزينة لبطل اميركي قتل في العراق. هذا صحيح من الناحية التقنية: فقد قاتل جوناثان كوتي مع الجيش الاميركي. وقد قتل في العراق.
لكن الامر اكثر تعقيدا من ذلك.

المال والحياة
قمت بتغطية اخبار الحرب في العراق منذ خريف عام 2004 حتى عام 2007، وقد تبين لي ان القصة في جوهرها كانت قضية مرتزقة.
لقد حملتْ هذه الحرب خطيئتها الاصلية: فشل ادارة بوش في توفير القوات الكافية. ولتعويض النقص، اختارت الحكومة ان تعطي مسؤولية تقرير من يمكن له ان يـَقتل ومن يموت من اجل الولايات المتحدة الى شركات غرضها الربح المادي، توظف عشرات الالاف من الجنود المستأجرين: المرتزقة، او المتعاقدين الامنيين الخصوصيين، كما اصطلح على تسميتهم. قام هؤلاء المرتزقة بتطوير لغتهم الخاصة وثقافتهم الفرعية، وخاضوا حروبهم السرية تحت شروطهم الخاصة، او "قواعد الصبي الكبير" كما يسمون كتابهم الحركي، وهي اكثر من اشارة على التحقير، وذلك لتمييزها عن ضوابط الجيش الرسمية. لم تقم الحكومة بادارجهم في لوائحها، احياءا او امواتا.
لقد كانت، من اعتبارات عدة، حربا موازية، تلك الحرب التي اظهرت، آخر المطاف، اكثر مظاهر الصراع في العراق ظلاما. قام المرتزقة بقتل العراقيين في ظل الحصانة الممنوحة لهم رسميا، كما قام العراقيون بقتلهم. ولم تظهر شدة هذه الحرب الخاصة حتى قام موظفو بلاك ووتر، وهي شركة من بين المئات من المؤسسات الامنية الخاصة في العراق، بقتل 17 شخصا في ساحة للمرور في بغداد في ايلول من عام 2007. وعند ذاك، بعد مرور خمس سنوات من الصراع، لم يكن ممكنا الحفاظ على المجهود الحربي الاميركي بدون المرتزقة.
لقد كانت حربا بلا خطة. حربا بلا تنظير. حربا بدون حساب.
حربا كالهزيمة.
كنت قد التقيت كوتي أول مرة في تشرين الثاني من عام 2006، حينما دعاني الى الركوب الى جانبه من قاعدة طليل الجوية قرب الناصرية عائدين الى مدينة الكويت، حيث يقع المقر الرئيس لشركته المسماة كرسنت سكيوريتي غروب (مجموعة الهلال الامنية). وبغية تقليل التكاليف قامت كرسنت بعبور الطرق الخطرة في العراق مستخدمة مركبات مصفحة نوع جيفي افالانجز، وهي شاحنة صغيرة مدرعة بصفائح من الفولاذ على الابواب واضيف اليها مدفع رشاش في المؤخرة. قال كوتي آنذاك، انه قبل شهرين من ذلك الوقت القت عبوة ناسفة مزروعة على جانب الطريق بشاحنة غير مدرعة الى مسافة 50 متر عن الشارع الرئيس، وتسببت في مقتل اثنين من الموظفين العراقيين الذين كانوا بداخلها.
كان الوقت في منتصف الظهيرة، حيث تشع الصحراء حرارة ملتهبة، حينما توجه كوتي بشاحنته نحو البوابة الرئيسة للقاعدة الجوية. وصلنا الى مقدمة المدخل، ثم اصبحنا فجأة غير قادرين على الحركة، فقد وقفت قافلة من الشاحنات الكبيرة في طريقنا. وكان هناك على اليسار سياج من السلاسل يمتد مع الطريق. اما على اليمين فقد انحدر كتف ترابي بزاوية حادة الى الاسفل نحو حقل طيني هائل.
قال لي كوتي، مشيحا عن ابتسامة صفراء: "تشبث. هل ربطت حزام الامان؟"
انطلق بشاحنته المدرعة مسرعا عبر الكتف الترابي، حتى ارتطمت المركبة بالوحل، وارتمينا على لوحة التحكم الداخلية، ثم قاد الشاحنة الى الوراء، وبدأ المحرك بالزئير، بينما تدور الاطارات في محلها. ثم قام كوتي بتغيير اتجاه مغير السرعة فانطلقت الشاحنة الى الامام قافزة بنا عبر الوحول. وحينما وصلنا الى مقدمة القافلة قام كوتي باعادة الشاحنة بتهور الى الطريق المعبد. ثم ضحك طويلا.
قال كوتي انه يشعر احيانا كما لو انه يراقب نفسه يلعب بنفسه في الحرب. كان يبلغ 23 عاما من العمر ويبدو وكأنه عارض ازياء، بلحيته البنية القصيرة، ووجهه الوسيم الذي تشوبه بعض البقع الخفيفة، وجسده الذي يشبه اجسام لاعبي كرة القدم الاميركية. وقد نشر صورا في صفحته بموقع فيس بوك تظهر فقط نصفه الاعلى، او درعه الخالي ملتفا حول بندقية كلاشنكوف. وقال لي: "انا ذلك النوع من الشباب الذين يجب ان يحصلوا على التسلية مهما كان العمل الذي يقومون به".
احدى الاشياء التي كان يحب ان يقوم بها على سبيل التسلية هو ان يقود شاحنته في مدينة بغداد مع وضع اغاني باعلى صوت وفتح النوافذ، بينما يقوم بالتمايل الى الامام والخلف على ايقاعها وقد تباعدت اصابع يديه. لقد كان كوتي ايضا مهووسا بصحته. فعلى المقعد الامامي لشاحنته المدرعة كان يضع علبا من الخوخ والمكسرات المخلوطة، بالاضافة الى بندقيته الكلاشنكوف الملقمة ولكن مؤمنة، ونسخة من كتاب: "ما بعد القوة: الموسوعة الداخلية حول كيفية بناء العضلات واكتساب القوة".
وكان كوتي يكسب مبلغ 7,000 دولار في الشهر من عمله في حماية قوافل الامدادات في العراق، لكن لم يكن المال وحده السبب في عودته الى العراق. لقد خدم في الفرقة 82 المحمولة جوا، مكملا الجولات القتالية في العراق وافغانستان. وبعد انهاء خدمته العسكرية تم ادراج قيده في جامعة فلوريدا ليدرس المحاسبة. لابد انه كان يعيش مدينتة الفاضلة: لديه امرأة جميلة، حفلات اجتماعية، الشمس المشرقة على الدوام والتي لم ير مثلها في بوفيلو، مدينته الاصلية.
لكنه وجد ان العراق مازال يشغل باله، تلك التجربة المكثفة، والاحساس بالهدف الذي حصل عليه، والذي لا يمكن الاستعاضة عنه في أي مكان آخر. لقد حاول ان يحاكي هذه التجربة من خلال معاقرة الشراب، ومعاشرة نساء عديدات، وركوب المخاطر. في احد الليالي، بينما كان نصف سكران، وضع شاحنته نوع فورد على وضع القيادة الآلية ثم اخرج جسمه من نافذة السائق والقى بنفسه الى حوض الشاحنة الخلفي. وقف يتطلع من خلف قمرة الشاحنة مثلما فعل ليوناردو دي كابريو حينما مالت التايتانك، تضرب الريح وجهه، بينما تهرع شاحنته نحو الظلمة بسرعة 110 كم/ ساعة، وقد سيطر على مقودها صديقه المذعور بعد ان تحول الى مقعد السائق. ثم قام كوتي اخيرا بتسلق طريقه عائدا الى مقد المسافر من خلال النافذة.
قال كوتي لاحد اصدقائه في الكلية في احد الايام: " مكاني ليس هنا".
وغادر قبل ان يعلم به أي احد.
قال لي وهو يعود بشاحنته الى طريق تموين الرئيس المسمى (تامبا) بالقرب من الناصرية: "لقد كنت ابحث عن شعور افتقده، وهذه الوظيفة قدمته لي". كان كوتي يقود الشاحنة وقد فتح نافذته وارتدى قميصا قصير الكم، بينما كنت ارتدي سترة واقية. ازدحمت النجوم في السماء وبامكانك ان تشعر بحرارة الليل ورائحة الصحراء. وضع كوتي مشغل الاغاني الخاص به ليعزف اغنيات الهيب-هوب والراب في الخلفية باستمرار. اخذ كوتي يضرب على المقود ويتمايل برأسه طربا مع الموسيقى وهو يقود الشاحنة.
وكان يخبرني انه كان ينظر الى حياته كما لو كانت كتابا، قائلا وهو يشير عمره: "ان كان الكتاب من 23 صفحة فقط، فاريدها ان تكون 23 صفحة مثيرة للاهتمام حقا".
كانت تلك هي نسخته عن التعبير الذي سمعته مرارا وتكرارا في العراق: تعال من اجل المال، ابق من اجل الحياة.
بالنسبة للمرتزقة، او ان شئت المتعاقدين الامنيين، هذه احدى الطرق لتجميع مليون سبب لتوضيح لماذا هم في ذلك المكان. ولماذا واصلوا العودة الى ذلك المكان، بضمنها الاسباب التي لا يستطيعون التعبير عنها او ربما لا يريدون الاعتراف بها حتى لو استطاعوا. هناك يجدون ما هو جلي: الشعور بالرفقة، والادمان على الاثارة، فالعراق ميدان للواقع وليس التجريد. لكن الامر كان شخصيا في الغالب. مهما تكن روايتك، فهذا هو السبب في وجودك هناك. ليس لكون الرواية صحيحة اهمية كبرى، او فيما اذا اخبرت بها أي احد سواك، او فيما اذا تغيرت مع الزمن، حتى لو تغيرت كل يوم.
انا لدي روايتي الخاصة، ولهذا السبب ربما ظننت اني اتفهم لماذا يواصل الرجال مثل كوتي عودتهم الى هناك. ففي موطني في كاليفورنيا يرقد والدي على فراش الموت مريضا بسرطان الرئة، بينما يستأنف اخي، وهو صحفي ايضا، حكما بالسجن 18 شهرا لرفضه الافصاح عن مصدره الذي سرب له معلومات عن فضيحة منشطات. اما ابني، واسمه ويل، فقد بلغ للتو ثماني سنوات.
نعم، انا ايضا واصلت العودة الى العراق. حينما يسألني الناس لماذا لا استطيع الاجابة سوى بالقول: "انا اشعر اني احتاج الى ذلك فحسب".

خطة للربيع
تتطلب الصحافة كمهنة توازنا بين الحميمية والحفاظ على المسافة. لكني اعتقد ان الميزان قد مال بالنسبة لي، فبعد ان امضيت ساعات وساعات مع كوتي، وجدت نفسي فجأة اسديه النصيحة.
لم افكر في ذلك كثيرا في الواقع. لقد كان جون اصغر مني باحدى وعشرين سنة، لكن لدينا نفس يوم الميلاد: الحادي عشر من شباط. وكنت منبهرا به، مثلي مثل أي شخص آخر، فقد كان تجسيدا لقوة الطبيعة. قال احد اصدقائه ذات مرة: "قلبه مصنوع من اجزاء من هذا العالم".
لقد كانت الحياة كلها مفتوحة امام كوتي. وشركة كرسنت، باي اعتبار، لم تكن في مأمن لا من قريب ولا من بعيد. ذلك واضح للجميع. فبالاضافة الى ضعف شاحناتها، فقد تركت الشركة آثارا من الفوضى في عموم العراق. وردت تقارير بان موظفيها قاموا بتزوير هويات عسكرية من اجل ادخال العراقيين الذين لم يتم التحقق منهم الى قواعد الجيش الاميركي. كما تجول موظفو كرسنت في المدن العراقية، مطلقين النار من اسلحتهم، ومهربين الاسلحة والكحول عبر الحدود العراقية الكويتية. ويذكر ان الموظف "الصحي" للشركة وصف نفسه بانه مدمن كحول لم يمر باي تدريب طبي رسمي وليس لديه الوسائل الصحية الاساسية مثل الاربطة المانعة للنزيف. اما "المدير الامني" فهو مدان بتهمة العنف المنزلي وممنوع من حمل أي سلاح ناري في الولايات المتحدة، لكنه يقود مركبته في العراق مصطحبا بندقية كلاشنكوف، وقاذفة صواريخ محمولة على الكتف. وقد وظفت الشركة سائقي شاحنات قطر واشخاصا لم يخدموا في الجيش منذ سبعينيات القرن الماضي وارسلتهم الى ساحة المعركة مدججين بالسلاح.
قلت لكوتي: "يا صاح، عليك الخروج من هنا. عليك العودة الى مقاعد الدراسة".
كنا في احدى الشاحنات المدرعة في طريقنا الى زيارة احد الصاغة في مدينة الكويت، كان كوتي قد طلب منه ان يصوغ له محبسا على هيأة فراشة ليهديها الى امه في عيد مولدها. قال لي انها تحب الفراشات لانها حرة، مثلهما. وكان يخطط ان يعطي امه المحبس عندما يعود الى الوطن.
قلت لكوتي: "هذه الشركة غارقة في الفوضى. اعلم انك لا تشعر بذلك في بعض الاوقات، لكن كل شيء في العالم يجري امامك. مكانك ليس هنا".
ربما قال في بعض الاحيان انه لا يعبأ حقا اذا اصابه مكروه، لانه لا يمتلك زوجة او ابنا او أي شخص يكون هو مسؤولا عنه. لا اعتقد ابدا انه يعتقد بذلك تماما على الاطلاق، انها احدى الاشياء التي تقولها لتستدرك شعورك في لحظة ما. لكنه لم يقلها هذه المرة.
بل قال، عوضا من ذلك، انه يفكر في العودة الى الوطن، وانه قد قرر ذلك بالفعل. قال انه سوف يذهب الى الكلية في الربيع، هذه المرة ليدرس مادة مختلفة ولديه خطة.
قال: "ربما ارغب في ان اصبح مدربا، كما تعلم، مثل مدرب رياضي لفريق الكلية. افعل شيء ما خارج الغرف المقفلة".
اخبر كوتي عائلته واصدقاءه انه عائد الى الوطن، وترك رسالة على هاتفه النقال في الولايات المتحدة. طلب من اصدقائه في الاخوية بمدينة غينسفيليد ان يحجزوا له غرفة من اجل دراسته في الربيع. واتصل بصديقته شيفا هافيزي وطلب منها ان تأتي لاستقباله في المطار.
في الليلة التي سبقت مغادرتي الكويت، قررت ان التقط بعض الصور الفيديوية لكوتي. جلس على سريره في غرفته، متكئا على الحائط مرتديا قميصا اسودا قصير الكم وقد وشح عليه تمساح برتقالي اللون وكلمات "متبرع بالدم من جامعة فلويدا".
فجاة لاحظت الظلال على الحائط خلفه.
قلت له: "هل تعلم، انا انظر الى الظلال خلفك، وهي تبدو كما لو ان لديك اجنحة".
اجاب: "لا، لا يبدو ذلك".
قلت ضاحكا: "بلى، انها تبدو كذلك، نوعا ما".
ادار كوتي ليلقي نظرة، لكن الظلال تحركت بالطبع فلم يستطع رؤيتها.

قصة في الاخبار
توفي والدي بالسرطان وانا في طريق العودة من العراق.
بعد عدة ايام، قمت مع اخي بتنظيف شقته في بيتالوما، بكاليفورنيا. وبينما كنت اقود سيارتي عائدا الى منزلي، متعب ومجرد من الاحساس، شغلت هاتفي النقال. كانت هناك رسالة مستعجلة تطلب مني ان اتصل بالمكتب.
وكان مدير التحرير على الخط يسألني عن اسم الشركة الامنية التي سافرت برفقتها الاسبوع الماضي.
قلت له: "كرسنت سكيوريتي غروب".
قال: "هذا ما ظننت. اسمع، هناك قصة في الاخبار ان كرسنت قد تعرضت الى كمين في جنوب العراق. ثم فـُقد خمس من عناصرها".
وسرد علي الاسماء فلم اعيها في وقتها.
شعرت بالصداع والغثيان، وهو ما تشعر به حينما تنحدر الطائرة من ارتفاعها فجأة.
اسرعت بالعودة الى المنزل لكي اتصل بكوتي في مدينة الكويت. اجابني المجيب الالي، اولا بالعربية، ثم بالانكليزية: "الشخص الذي تحاول الاتصال به غير موجود حاليا او خارج نطاق التغطية".
تم اختطاف كوتي مع اربعة آخرين في نفس الطريق السريع الذي كنا نسافر فيه الاسبوع السابق. لقد سافرنا سوية، ولم يخطر على بالي ان حياته ليست الا كتابا من 23 صفحة.

حيوات معلقة
بعد اربعة شهور من الاختطاف، قرع جرس الهاتف قرب سرير فرانسيس ونانسي كوتي حوالي الساعة الثالثة والنصف صباحا. كانت نانسي الاقرب الى الهاتف، وقد ايقضها صوته، وملأها رعبا.
كان المتحدث هو فرانكو بيكو، مالك شركة كرسنت سكيوريتي غروب، متصلا من الكويت. استيقظ فرانسيس في هذه الاثناء فناولته نانسي سماعة الهاتف. افزعته لهجة بيكو الافريقية الجنوبية الغليظة. لكن بيكو قال له انه "كان يتوقع اخبارا طيبة". قال له ان لديه مصادر اخبروه انهم شاهدوا جون والاربعة الاخرين احياءا. قال انه لم يستطع الحصول على تفاصيل اكثر. لكنه ترك انطباعا ان كابوسهم سوف ينجلي قريبا.
مرت ايام، واسابيع، ومن ثم اشهر. لكن كوتي لم يسمع من بيكو اي خبر مرة اخرى.
كيف نلتقي اصدقاءنا، هؤلاء الاشخاص الذي احببنا؟
التقيت فرانسيس ونانسي كوتي لان ابنهم مختطف في العراق، وكنت من بين آخر الناس الذين رأوه حيا.
فرانسيس البالغ 50 عاما من العمر، كان رجلا صلبا ومحتملا، بلحية مدببة على الحنك وشعر كثيف اشيب. امضى عشرين عاما في المارينز، وقاتل في حرب الخليج، ومن ثم تقاعد من الخدمة. والان يعمل مدير برنامج في شركة أي بي ام. اما نانسي فهي زوجته الثانية وزوجة اب لجون، والتحقت بادارة مكافحة المخدرات في عام 1980، لتصبح المرأة رقم 50 في التاريخ التي ترتقي الى مرتبة العميل المقيم المسؤول عن فرقة مكافحة المخدرات في بوفيلو.
راقبتهم، بعد الاختطاف، وهم يعانون في وقار وتأدب، بصبر وايمان. لا يمكن تفريق مأساتهم عن مأساة العوائل الاخرى التي لديها احبة في حافة الخطر في العراق، لكنها مع ذلك مختلفة تماما لانها تشتمل على الاعمال التجارية.
حال ان اعلن فقدان جون والرجال الاربع الاخرين قامت شركة كرسنت سكيوريتي غروب بتعليق رواتبهم، كما لو انهم اخذوا اجازة غير مصرّح بها، او تغيبوا لشهور عديدة في اجازة مرضية غير موثقة. بالنسبة الى كوتي، الطالب الجامعي، لم يكن ذلك يعني الكثير، لكن الاخرين كانوا معيلين ولديهم اطفال.
شعرت عوائل المختطفين بالضعف، واليأس، وتعلقت حيواتهم. عينت وزارة الخارجية ممثلة عنها من مكتب خدمات المواطنين وادارة الازمات لاحاطتهم علما بما يجري. هذه الممثلة اسمها جيني فو، وقد اتصلت بكل عائلة مرة في الاسبوع من مكتبها في واشنطن.
لكن لم يكن لديها الكثير لتقوله. كانت فو مبتهجة ومتعاطفة، واتصلت كل اسبوع بلا تأخر. لكن العوائل ادركت انها ليست الا موظفة تقوم بواجبها، حيث ان دورها الاساس ينصب في تهدئة روعهم، ومن ثم ازداد استيائهم. وكان مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي أي) هو من يقوم بالتحقيقات خارج المنطقة الخضراء في بغداد، وليس وزارة الخارجية، وكان هو الاخر مضطربا. كان حادث الاخطاف هو الاكبر الذي يقع ضد اميركيين منذ بدء الحرب، ومع ذلك فان غرفة العمليات كانت متمركزة على بعد 500 كم من ساحة الجريمة، وليس في أي مكان قرب المنطقة التي يعتقد ان الرهائن قد احتجزوا فيها. امضى العملاء الفيدراليون 90 يوما في العراق ومن ثم سلموا القضية.
كانت نانسي كوتي غاضبة جدا للتقصير الواضح التعامل مع قضية ابن زوجها. وقامت بدفع الحكومة، من خلال اتصالاتها داخل ادارة مكافحة المخدرات، لتغيير تكتيكاتها بهدوء. وعلى خلاف الاف بي أي، قام عميل لا يمتلك خبرة سابقة في التعامل مع قضايا الاختطاف بايجاد موقع له جنوب العراق.
سوف يبقى هناك فترة طويلة حتى اصبح يعرف باسم جو من البصرة.

الحمولة المهولة
سافر جو، بعد ان امضى بضعة شهور في عمله، الى بغداد لابلاغ مسؤولي الاف بي أي والمسؤولين الحكوميين الاخرين بمستجدات القضية. وبينما كان هناك تلقى اتصالا على هاتفه النقال. اخبره المتصل ان رسولا قد توجه الى مطار البصرة حاملا دليلا على رهائن شركة كرسنت المفقودين.
في الحادي عشر من شباط 2008، في يوم ميلاد جون كوتي الخامس والعشرين، اتصل جو بالبصرة لاخبار فريق القوات الخاصة في البصرة بان الرسول في طريقه اليهم.
جاء الرجل الى بوابة المطار حاملا كيسا صغيرا من البلاستك. تم اصطحابه الى الموقع شديد التحصين، حيث قام قائد القوات الخاصة، مرتديا قفازات بلاستيكية، بفتح الكيس بعناية، ثم شعر بالقشعريرة تمر بجسده. وجد في داخل الحقيبة خمس اصابع مقطوعة، كل في كيس منفصل. اخبره حامل الكيس انها تعود الى رهائن شركة كرسنت المفقودين. كانت الاصابع مغطاة بالاتربة ، كما انها كانت قد تحللت بشدة، حتى اصبحت اشبه باطراف الاصابع منها بالاصابع نفسها. وفيما بعد، اظهر التحليل الذي اجري عليها في الولايات المتحدة ان احدها يعود الى جون كوتي.
شعر كل من فرانسيس ونانسي ان الاكتشاف المهول كان دليلا على ان جون مازال حيا. قالت لي نانسي: "لو كان جثة، اما كنتَ ستأخذ الاصبع بكامله؟ انا اعتقد حقا انه قد قـُطع من جسم حي".
ولكن ما هي الاسابيع حتى يتم استلام الجثث نفسها. ففي 24 نيسان، وبعد العثور على رفات الاربعة الاخرين من رهائن كرسنت، توقفت اربع سيارات امام منزل كوتي في ضواحي بوفيلو. كان يوما ربيعيا مشرقا. مرّ العملاء من خلال المطبخ، ثم جلسوا الى طاولة الشرفة في الخارج مع فرانسيس، ونانسي، والاخ الاكبر لجون، المدعو كريس.
نظرت العميلة ذات الشعر الاحمر الطويل مباشرة الى فرانسيس، واخبرته ان الفحوصات قد استكملت وان الجثة الاخيرة تعود الى "ابنك جوناثان كوتي".

معضلة غير محلولة
بلغ الرقم الرسمي لاعداد القتلى الاميركيين في العراق حتى ذلك اليوم 4,047. ولم يتغير الرقم حينما تم التعرف على رفاة جون.
بعد مرور خمس سنوات من الحرب في العراق، لا يتم احتساب المتعاقدين الامنيين الخصوصيين، احياءا او امواتا، حتى ولو كان المئات، وربما الالاف قد قضوا.
يخلق استئجار اناس ليقاتلوا في حربك حالة من عدم الوضوح.
لم استطع ابدا ان احل هذه المعضلة. اضحت قضية جون كوتي، بالنسبة لي، مثالا على الحرب، مع كل البطولات المجيدة والفراغ الاخلاقي. لقد اصبحت مرتبطة، بما يستحيل الفصل، مع موت والدي، ومع اسبابي الغامضة لترك عائلتي لكي اعود الى العراق، بالاضافة الى القرارات المأساوية، كبيرها وصغيرها، التي نتخذها جميعنا، كافراد وكبلد.
لقد احببت كوتي لحظة التقيته. لكنه اقحم نفسه في عمل قبيح رعته الحكومة الاميركية، وهو ما يظهر فشلنا في العراق، وهو ايضا وسيلة لتحويل المسؤولية واخفاء اعداد القتلى.
بينما انقسم العراق الى اجزاء، ليس قريبا التآمها مجددا، ساعد المتعاقدون الامنيون الخصوصيون في الصاق الحرب بهامش ضمائرنا، العشرات من الالاف من جنود الظل، دورهم وهوياتهم ضبابية مثل الحرب نفسها. لم يكن عليك ان تدرجهم في سجلاتك، او تحتسبهم، او تديرهم من خلال الكونغرس.
لم يكن عليك حتى ان تعلم انهم كانوا هناك.
في الثاني من آيار، ازدحم 800 شخص قرب صورة ميلاد المسيح في كنيسة مريم العذراء المباركة في وليامزفيل في نيويورك، من اجل تأبين كوتي. ضم الجمع اكثر من اثني عشر من اعضاء الفصيل الذي خدم فيه التابع للكتيبة 82 المحمولة جوا، وبعضا من اصدقائه في الاخوية من جامعة فلوريدا، واصدقاء واقارب من انحاء البلاد. ولكن لم يكن بينهم ممثل واحد عن شركة كرسنت سكيويتي غروب.
نهض فرانسيس، ضغط بيده اليسرى على نعش ابنه، ثم مشى متثاقلا نحو المنبر.
في غمرة رثاءه الطويل، وقد تردد صوته في ارجاء الكنيسة، اخذ لحظات يصف فيها العالم الغريب وغير المألوف الذي قتل فيه ابنه.
قال فرانسيس ان موظفي المتعاقدين الخصوصيين "يخفون التكلفة الحقيقية للحرب. موتهم لم يضف الى حساب القتلى الرسمي. واجباتهم –وامتيازاتهم– يقوم باخفائها مدراء تنفيذيون مكممو الافواه، والذين لا يعطون تفاصيل الى الكونغرس، بينما تنتفخ اموالهم وادوارهم".
ثم اضاف قائلا: "على الرغم من جون لم يكن في القوات المسلحة حينما قتل، الا انه كان، مرة اخرى، يخدم بلدنا في هذه الحرب".
* فاينارو هو مراسل واشنطن بوست. وقد منح جائزة بولتزر عن تقاريره عام 2007 حول دور القوات الامنية الخصوصية في الحرب في العراق.