عن: التايمز
ترجمة: علاء غزالة
لعل واحدة من الحقائق المحزنة الكثيرة التي ادت الى انحدار العراق الى الاقتتال الطائفي تكمن في عدم التفكر بشكل مناسب في الماضي القريب. فعلى مدى السنوات الخمس الماضية كان الصحفيون الاجانب والعراقيون منشغلين جدا في تأريخ واعداد مسوحات عن فظائع الصراع الحالي، بحيث لم يمضوا وقتا في التفكير بجرائم صدام على مدى ربع قرن من وجوده في السلطة. ان هذا لشيء مخجل، ليس فقط لان العراقيين يحتاجون الى الفرصة للراحة ومواجهة تأريخهم، بل لان العنف الذي نشب بعد عام 2003 لم يكن مفهوما الا قليلا بالنسبة للذين لم يعيشوا الظروف التي قدمت له. وهناك الكثير جدا من الصحفيين الاميركيين الذي يرسلون تقارير من العراق، تـُقرأ وكأنها رسائل مجموعة من رواد الفضاء الذين يزورون كوكبا اجنبيا متوحشا، تعروها مقاطع تأريخية سطحية عن الاقتتال الطائفي المؤسف.
انه لمن المريح حقا، اذاً، قراءة كتاب "مثقال حبة من خردل" لكاتبته وندل ستيفنسون، والتي روت ، بكل براعة واناقة، قصة تنسج كلا من ماضي العراق وحاضره. وكانت شخصيتها هي كامل ساجت، وهو جنرال عراقي وبطل حرب تجرأ على احتقار صدام، ومن ثم تم اعدامه عام 1999. وقد نذرت ستيفنسن، الصحفية التي كتبت للعديد من الدوريات الاميركية والبريطانية، نفسها لمهمة صعبة: فقد توفي ساجت قبل وقت طويل من وصولها عام 2003، ما يجعل تتبع سيرة حياته امرا في غاية الصعوبة. لكنها نجحت، وجعلت قصته استقصاءً قويا للسؤال الاخلاقي في قلب عراق صدام، والكثير من الدكتاتوريات الاخرى: لماذا يوافق الناس عليها؟ هل قاومها احد؟ واذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعلهم مختلفين؟
وقامت ستيفنسن بتتبع سيرة حياة ساجت من خلال شهادات الناس الذين عرفوه. وهؤلاء هم مجموعة غير اعتيادية من الشخصيات، بضمنهم جنرالات وجنود ورجال اعمال واثنين من الاطباء ذوي النظرة الثاقبة، بالاضافة الى افراد عائلة ساجت. وقامت بحياكة ذكرياتهم مع شذرات من مواد متبقية من تلك الفترة، مثل الخطب والتسجيلات المكتوبة عن البرامج الاذاعية وما شابه ذلك، وهو ما يجعل العراق في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات اكثر حيوية من أي كتاب آخر قرأته. (يجب ان اقول اني قد التقيت ستيفنسن وبعضا من العراقيين الذين ورد ذكرهم في كتابها.)
وعلى سبيل المثال، بدلا من ان تقوم ستيفنسن برواية الغزو العراقي للكويت في عام 1990، حيث كان ساجت قائد قوات خاصة، فانها تخبر القصة باكملها تقريبا من خلال تداعيات محمد الجبوري، وهو جندي كان يبلغ من العمر 20 عاما حين اطلق سراحه من السجن ومن ثم انزل بالمظلة على الكويت في نفس الليلة، يدخن السيجارة وكأنه يعوم على ارض جرداء حالكة. لقد قرأت الكثير من الروايات الجافة عن انقلاب عام 1968 الذي جاء بصدام ورفاقه البعثيين الى السلطة، لكن ستيفنسن تصفه من خلال عيني الدكتور حسين القضاني، الذي ايقضه ازيز الرصاص المتطاير في شارع الرشيد، وهرع من غفوته يذرع السلالم ليسأل باعة الرصيف عما يجري.
وهي تصحب هذه الشخصيات ايضا مع مضي الزمن قدما الى السنوات التي تلت عام 2003، حينما اختبأوا في العراق او هربوا الى المنفى. وباتت اصواتهم، التي تستذكر قصة نضال ساجت وحيدا مع صدام وقصة نجاتهم هم انفسهم، باتت شهادة تساعد على تفهم اكثر لظرف العراق الراهن.
يبدو ان ستيفنس معجبة كثيرا بـ(ريزارد كابوسينكي) وهو صحفي بولندي وكاتب واقعي. وهي تستخدم احدى تقنياته، بان تضم الى روايتها، بين الحين والاخر، وصفا لصور العائلة من شأنها ان تساعد في استحضار الماضي. وهي تكتب، مثل كابوسينكي، باسلوب خيالي فياض، يترك القاريء متسائلا عما اذا كانت تترك خيالها يسرح بعيدا في بعض الاحيان، وذلك لاضفاء بعض التشويق السينمائي، تماما مثل كابوسينكي.
لكن ستيفنسن دقيقة بشكل مؤثر حينما يتعلق الامر بالحقائق في معظم الاحوال، حيث انها تقوّم بعناية كل واحد من شهودها وزلاتهم التي قد تشوه ذكرياتهم. وهي تسعى، في كل حالة تقريبا، الى الكفاح الاخلاقي الشخصي، لحظة الاحتجاج الشجاع، او خداع الذات الذي يغشى الضمير المتعب. وهي تصبح -الى حدما- احدى شخصيات هذه القصة، تحاور بجدية واخلاص، وتسبر -على الدوام- وجوه العراقيين بحثا عن أمارة على الشعور بالذنب، او العزم على النسيان. يعكس عنوان كتابها هذا الاستحواذ الاخلاقي، والذي اقتبسته من آية قرآنية حول الميزان الالهي لافعال الخير والشر يوم القيامة، بحيث يكون الحساب الى حد "مثقال حبة من خردل."
تأتي واحدة من اقوى اللحظات في الكتاب من رجل عرفته باسم الدكتور ليث، وهو طبيب نفسي انتمى الى حزب البعث، وقد تعرض الى السجن بلا سبب عام 1991، ومن ثم عرضت عليه فرصة ان ينضم مجددا الى الحزب (وقد كانت تلك ممارسة شائعة يتم تطبيقها من اجل فرض الخوف والولاء). ولكنه رفض. وبعد مضي سنوات، الكثير من السنوات، يتحدث بيأس الى ستيفنسن عن ضياع الانسان في العراق وعن فشله الذاتي. وهو يقول لها: "لكني ابقيت هذا الشيء، هذا الشيء الوحيد الحسن، هذه اللحظة. لقد رفضت."
غير ان اكبر رفض على الاطلاق جاء من ساجت ذاته. لم تكن هناك مواجهة مفاجئة، ولم تكن هناك لحظة نطق بالحقيقة امام السلطة، او على الاقل لم تكن هناك لحظة نعرف عنها (يبقى سبب اعدام ساجت قضية تلفها التكهنات). بدلا عن ذلك يأتي الانفصال بطيئا وبالتدريج، ويبدأ تميّز جندي شجاع ومبدئي كان يخدم نظاما شريرا.
تصف ستيفنسن ساجت في غالب الامر من خلال كلمات زوجته واولاده، والذين سمحوا لها ان تجلس في غرفة معيشتهم في بيتهم ببغداد، وان تشاهد اشرطة فيديو قديمة مشروخة عن معاركه وانجازاته طوال حياته المهنية. وقد نشأ في عائلة بدوية فقيرة، وتدرج في الرتب العسكرية، واصبح بطلا اثناء الحرب العراقية-الايرانية. لكن ساجت لم يكن ذلك النوع من الابطال الذين تتخيلهم هوليوود حيث لم يكن سوى رفضه الغزو الكارثي للكويت ما يجعل ساجت يقلع عن مساندته للنظام، معتقدا ان صدام قد دمر البلاد بدون حاجة.
وفي السنوات التالية، بينما كانت العقوبات والفساد تنهش بالعراق، تعمقت غربته، لكنه كان جنديا مسلكيا، ولم يكن ذلك المتمرد الصريح. ولم يشترك في أي من المؤامرات التي حاكتها وكالة المخابرات الاميركية ضد صدام. بدلا عن ذلك، لجأ الى الدين، واضحى مؤمنا متزمتا. ورفض السماح لاحد اولاده بالالتحاق بالجيش. وفي آخر الامر، يبدو انه عرف ما سيأتي، لكنه رفض العروض بالهروب من العراق.
وبطريقة ما عثرت ستيفنسن على ضابط شهد اعدام ساجت، ويقص هذا الرجل –الذي يقطن انكلترا حاليا- القصة بتفاصيل حزينة ومؤلمة. وحينما ارسل الجثمان اخيرا الى عائلة ساجت، تم تعيين جنود لمراقبة النائحات اللواتي عرفن للتو من كان بداخل النعش.
وحينما زارت ستيفنسن العائلة آخر مرة، في عام 2005، وجدت ان ابناء ساجت قد استحالوا الى مساندين متحمسين لمجاميع التمرد ضد الاميركيين. وهم لايزالون مخلصين لكراهية ابيهم لصدام، لكن عالم الاخلاق القديم، بيقينياته الوحشية، كان قد تمزق. لقد توجب عليهم ان يتخذوا جانبا. يقال ان احدهم قاتل في معركة طائفية شرسة جنوبي بغداد. يقول احد القادة المحليين: "لقد كان ابوهم بطلا. لكنهم دنسوا اسمه."