عن: كريستيان ساينس مونيتر
ترجمة :علاء غزالة
انحنى الشاعر خالد المياحي نحو لاقطة اذاعة الرشيد وفتح قلبه للمدينة، مستعملا كلمات كانت ستؤدي الى قتله قبل ان تستعيد القوات العراقية البصرة من ايدي المليشيات المتطرفة في العام الماضي. انشد قائلا: "انا راهب بحبك. بنيت اكبر الكنائس في روحي من اجلك"، ملوحا بيده بعاطفة تجسد صدى ما كتب. وراحت ارتجالات الكمان المؤثرة للعازف نائل حامد، الذي يجلس بالقرب منه، تسبح عبر الاثير. ثم التقط المذيع عودا عربيا تقليديا ليشترك معهما.
في هذه المدينة التي تمتلك جمالا ذاويا وقرونا من الحضارة، بدأ الشعر والموسيقى، التي انزوت تحت الارض في فترة سيطرة المليشيات، في التفتح من جديد.
استطرد السيد المياحي، الذي يبدو بهيأة نجم سينمائي وهو يلقي الشعر وكأنه يحترق: "حفرت صليبا في قلبي. ليس من احد مثلك في هذا الكون. انت سؤال احتواه كتاب باجمعه."
هذا البرنامج الحي هو في غاية التشويق، وفي هذه المدينة المحرومة، فانه يسقط مطرا مرحبا به. تشرق خطوط الهاتف باصوات فتيات يردن ان يشاركن حبهن للشعر، حيث يُستدعى عريف الشرطة وعاشق الشعر في كل حلقة.
يقول مدير المحطة نوفل العبيد: "يريد الناس العراقيون ان يستمعوا الى الموسيقى. انهم يريدون حياة جديدة، خصوصا في البصرة." وكان السيد العبيد، وهو صحفي، قد غادر العراق عام 2006 بعد ان خُطف وقـُتل احد اصدقائه، وقد عاد قبل ثمانية اشهر. ويقول: "لقد اخذت الامور بالاستقرار في البصرة، ولكن ليس 100 بالمائة. يمكن القول 60 او 75 بالمائة."
هذه المحطة التي طورتها اذاعة الرشيد في بغداد، تبث مزيجا من الموسيقى والشعر والحديث، غير ان عمرها يبلغ شهرين فقط.
لكن الشعر يعود الى قرون مضت. وهو كالهواء بالنسبة الى العراقيين. ففي البرامج الاذاعية في بغداد يتصل الناس ليطلبوا اذاعة القصائد بنفس الطريقة التي يتصلون ليطلبوا اغانيهم المفضلة. واذا توفي شاعر معروف فان ذلك مناسبة للحداد وطني.
وللبصرة تاريخ من الحضارة يعود الى 5000 سنة مضت عندما كانت جزءا من سومر القديمة. ويعتقد ان السومريين هم اول من اخترع نظام الكتابة. وتقع المدينة على شط العرب، حيث يلتقي دجلة بالفرات، وتتربع على ملحمة السندباد البحري، وعشرات الالاف من القصائد التي تلتها.
قصائد، وقصائد في كل مكان
لا يمكنك ان تدير وجهك في البصرة، في هذه الايام، بدون ان ترى او تسمع شعرا. وعلى الكورنيش المحاذي لشط العرب، حيث تتمشى العوائل بعد الغروب، يستند اثنان من الشعراء الجادين الشباب الى حافة السياج حاملين دفاتر ملاحظاتهم، ومراقبين الزوارق المارة.
احد الزوارق يحمل عرسا حيث يقرع الشبان المرتدين سراويل الجينز السميكة على الطبول ويرقصون بمرح في خلوتهم على السقف، وهي اشارة لم تخطر على البال قبل الربيع الماضي.
يكتب علي المنصوري وسيف الحلفي، وكلاهما طالب في جامعة البصرة، قصائد شعبية، وهو الشعر المحبب في الشارع، حيث يُكتب ويُتلى بلهجة دارجة، بدلا من اللغة الفصحى التقليدية الاكثر تعقيدا. هذه القصائد التي عادة ما تتحول الى اغان، هو شعر موجه للجماهير.
يقول السيد المنصوري، الذي يشتكي من ان المسؤولين الحكوميين لا يأخذونهم على محمل الجد: "نحن نكتب شعرا شعبيا بسبب حبنا واحترامنا الى تراثنا الادبي التقليدي." ويضيف انه حينما اعلنت الحكومة العراقية مؤخرا البصرة عاصمة للثقافة، لم يتم استدعاء اي من الشعراء الشعبيين الى الاحتفال.
الحب والامن من المواضيع المفضلة
معظم الشعراء، في الثقافة العربية المشحونة بالعواطف، هم على وشك الوقوع في الحب، حيث يكون الكثير منه بلا امل. لكن هناك تغيرا بين الجيل الشاب من الشعراء في البصرة. يقول المنصوري، الذي لا تقلقه الرومانسية اكثر شيء، بل ما يقلقه هو الحصول على عمل عندما يتخرج: "معظم الشعر الذي نكتبه يدور حول الوضع الامني والمأساة في العراق، وانا اكتب الشعر عن الارامل والايتام."
حينما يُسأل المنصوري ان يتلو شعرا مما يكتب، فانه يعقد حاجبيه، ويأخذ نفسا عميقا، ويقع في الحب مجددا. ينشد عن الفراق: "رحيلك نار لا تنطفي ولو شربت النيل."
يقول الحلفي، الذي يرتدي قميصا اصفر ذا مربعات، ويضع نظارة شمسية انيقة في وقت الغروب: "لقد تحولنا الى الشعر الوطني الذي يدعو الى التفاؤل اكثر منه الى الحزن. نرى الان القوارب تعود الى شط العرب والماء يبدأ في الصفو، والوضع يتحسن، والحمد لله. الان يطفو التفاؤل على قصائدنا."
ولكنه لم يختر ان يقرأ من شعره. وهو ينشد: "العاطفة مطلب. تقفز دقات قلبي لبعدك.. في لحظة مغادرتك، امسك بك، ثم اقفل راجعا، ولكني لا استطيع ان استعيد يدي."يقول إن من يكتب الشعر الشعبي هم الفقراء .يقول الحلفي، الذي يدرس الرياضيات، ان تلك الايام الصعبة قد ولت. ويضيف: "نحن متفائلون بالمستقبل. نحن نأمل ان يعود العراق كما كان سابقا... ان تُمسح جميع الدموع وان تُحل جميع مشاكل الشباب العراقي. الشعب العراقي اناس طيبون جدا. انهم يحبون الحياة، والاحداث التي مرت تثبت ان الشعب العراقي شعب طيب."هذا قول تسمعه المرة تلو الاخرى، في البصرة تحديدا. هذا القول الذي يترجم الى الانكليزية "اناس جيدون" يستعمله العراقيون الاخرون لوصف اهالي البصرة بالـ"طيبين"، بمعنى ذوي طبيعة حسنة. يعشق البصراويون مدينتهم الساحلية، او ذكرياتهم عنها، بنفس العاطفة التي تحملها امواج الاثير عبر اذاعة الرشيد في المساء.يقول عبيد، مدير المحطة: "لم استطع تحمل البقاء خارج العراق لاني احب مدينتي. لقد نشأت هنا. اتذكر اصدقائي وجيراني في كل ليلة، اصدقائي الذين ما يزالون على قيد الحياة، واصدقائي الذين فقدتهم."يصف عبيد، الذي ذهب الى عُمان، السنوات التي خضعت فيها المدينة للمليشيات بانها "جنون"، ويضيف: "حينها لم يكن بمقدوك ان تثق باي احد. كان يمكن ان تفقد حياتك في لحظة."وكان قد غادر العراق بعد تعرض صديقه فاخر حيدر، الذي كان يعمل مع جريدة نيويوك تايمز، الى الاختطاف على يد رجال يرتدون زي الشرطة، ومن ثم قتل في عام 2005. ويقول انه عاد ادراجه ليحاول ان يجعل الامور افضل في البصرة تخليدا لذكرى صديقه.
التعويض عن خمس سنوات من الاضطراب
يقول عبيد ان اكبر التحديات الان يكمن في التعويض عن خمس سنوات لم تجر فيها اعادة الاعمار. ترغب المدينة في اجتذاب المستثمرين، لكن هناك ساعات من انقطاع الكهرباء في كل يوم، وتعاني البنية التحتية من عقود من الاهمال.يقول عبيد انه بعد ان مرت السنوات الماضية، حينما كان العراقيون يستهدفون لتحدثهم لغة اجنبية، فان محطته تخطط لاذاعة اغان باللغة الانكليزية حالما يعثر على مذيعة، والتي تبعث على الراحة اكثر من الصوت الرجالي. وتبث المحطة 20 ساعة يوميا، ويصل بثها الى مسافة 65 ميلا (104 كيلومترات).
ويستطرد قائلا: "يحب الناس الاغاني الانكليزية، وهم يطلبون منا ان نبثها بعد منتصف الليل، فهم يبقون ساهرين حتى الساعة الثالثة صباحا، وهو الوقت الذي يرغبون في ان يستمعوا فيه الى تلك الاغاني."غير ان المحطة لابد من ان تضم عنصرا دينيا، طالما انها جزء من الثقافة. فهو يقول: "نحن نبث القرآن الكريم، تتلوه موسيقى كلاسيكية."