Friday, September 05, 2014

المزيج القاتل في بنغازي- الفصل الخامس: الهرج والمرج

اضغط لقراءة المقال في نيويورك تايمز بالانكليزية

كتب ديفيد كيركباتريك في صحيفة نيويورك تايمز بعددها الصادر في 28 ديسمبر 2013 تقريرا موسعا عن احداث بنغازي وتداعياتها، وقسمه الى ستة فصول هي: الاشارات التحذيرية، القائد، السفير، الشرارة، الهرج والمرج، التداعيات.

ترجمة: علاء خالد غزالة


الفصل الخامس: الهرج والمرج


"الفراغ الامني"، كان ذلك هو ما كتبه السفير ستيفنز في مذكراته الشخصية في 6 سبتمبر بطرابلس، وهي واحدة من الصفحات القليلة التي تم استرجاعها من مجمع بنغازي.

وكتب: "المليشيات قوة على الارض." مستطردا: "الظروف خطرة، بضمنها سيارات مفخخة، هجمات على القنصلية. الاسلاميين لديهم (قائمة بالاهداف). تم استهدافي في احد المواقع الالكترونية الرئيسية (لن اهرول خارج المجمع بعد الان)". وقال الدبلوماسي ان خارطة لطرق الهرولة بطرابلس قد ظهرت على الانترنت، فيما يبدو انه دعوة للهجوم.

ولكنه كان سعيدا حينما وصل الى بنغازي قادما من طرابلس في زيارة لها. وكتب في مذكراته يوم 10 سبتمبر: "لدي ارتباط عاطفي قوي جدا بهذا المكان، وبالناس، ولكن هناك ايضا الشعور في التواجد بالمدينة الاصغر والهواء المنعش والمجمع الاخضر الواسع."
في الساعة السابعة من صبيحة يوم 11 سبتمبر، لمح الحراس في البعثة الاميركية رجلا يلتقط صورا بهاتفه المحمول في الطابق الثاني من البناية التي كانت تحت الانشاء بالقرب من معطم فنيزيا عبر الشارع، وذلك حسبما ذكر الحراس الليبيون في مقابلات، بالاضافة الى تقرير وزارة الخارجية.
حينما اقترب الحراس، هرب المصور بسيارة شرطة مع اثنين آخرين، جميعهم في بدلات المليشيا شبه الرسمية المعروفة باللجنة الامنية العليا. وقال فواز ونيس، وهو القائد السابق لتلك المجموعة، انه يشك ان الرجال كانوا يجروا استطلاعا لصالح جهة أخرى.
واضاف السيد ونيس: "لدينا كل الاطياف في اللجنة الامنية العليا، من الاسلاميين المتطرفين الى السكيرين."
كتب السيد ستيفنز في مذكراته: "تهديدات امنية لا تنتهي..."
بحلول الغسق، بدأت المحطات الفضائية العربية ببث مقاطع عن المظاهرات التي كانت تخترق اسوار السفارة الاميركية في القاهرة، وتنزل العلم الاميركي لتضع مكانه علم المليشيات الاسلامية الاسود. وبدأ الشباب في بنغازي بالاتصال ببعضهم حول الانباء القادمة، حسبما قال بعضهم، حيث علم الكثير منهم بالفيديو للتو.
كما علم السيد ستيفنز، الذي امضى اليوم في المجمع لاسباب امنية تتعلق بذكرى احداث 11 سبتمبر، بشأن الاختراق الامني من خلال مكالمة هاتفية مع السفارة الاميركية في طرابلس. ثم اتصل مسؤول الامن الدبلوماسي في بعثة بنغازي بفريق السي آي أيه. ولكن حتى مع بلوغ الساعة 6:40 مساءً، بدا السيد ستيفنز مبتهجا لدى استقباله القنصل التركي، علي خان، الذي جاءه زائرا.
وقال علي خان ان الامن كان اقل من المعتاد في المجمع. لم يلتق بحراس اميركيين مسلحين عند البوابة، بل وجد عددا قليل من الليبيين غير المسلحين. وقال: "لا عناصر امن، لا دبلوماسيين، لا احد. لم يكن هناك رادع."
في الساعة 8:30 مساءً، أودع الدبلوماسيون البريطانيون مركابتهم واسلحتهم في المجمع الاميركي قبل سفرهم الى طرابلس. واستنادا الى المسؤولين الاميركيين الذي شاهدوا مقاطع فيديو الكاميرا الامنية انه في الساعة 9:42 مساءً، ادارت مركبة شرطة كانت متمركزة في الخارج محركها، وسارت بعيدا على مهل.
وبعد لحظات، اقترب شخص منفرد من البوابة الرئيسية، راكلا الحصى ومتطلعا حوله، وهو ما فسره المسؤولون بانه عملية الاختبار الاخيرة.
بدأ الهجوم بعدة عشرات من المقاتلين، استنادا الى هؤلاء المسؤولين. واطلق الغازون النار من اسلحتهم الكلاشنكوف على الانوار المحيطة بالبوابة واقتحموها بكل سهولة.
وكان في المجمع ثمانية حراس مسلحين في الليل: خمسة اميركيين وثلاثة ليبيين مرتبطين بلمليشيا 17 فبراير. جميعهم تراجعوا. وتسابق الاميركيون للامساك باسلحتهم في البناية الاخرى بالمجمع، لكنهم وجدوا حشدا من المهاجمين يسد طريقهم الى الفيلا الرئيسية.
واحتمى السيد ستيفنز والمسؤول المعلوماتي في الغرفة الآمنة بالفيلا، بينما تموضع المسؤول الامني المسلح لحمايتها.
وبدأت الاخبار تتداول في ارجاء المدينة من خلال اتصلات هاتفية مذعورة، تبارت في رواية القصص. وبدأ ابو بكر حبيب، وهو اميركي من اصل ليبي وصديق للسيد ستيفنز، في الاتصال طالبا المساعدة من حفنة من قادة المليشيات الاكثر اهمية، مثل السيد بن حامد والسيد غرابي. لكن التقارير الزائفة انتشرت بشكل اوسع واسرع: لقد اطلق الحراس في المجمع النار على رجل ليبي جاء محتجا، واصابوه بجراح.
يقول السيد غرابي: "لقد قالوا لبعضهم البعض ان الاميركيين قتلوا الليبي. لهذا السبب على الجميع ان يرحلوا."
يقول السيد غرابي، الذي كان يحضر حفل عرس على بعد مئات الاميال، انه علِم ان بعض مقاتليه سوف يشترك بالهجوم، ولهذا ارسل مبعوثا، هو "رجل حكيم" لمنعهم. وكان السيد بوكتف من كتيبة 17 فبراير في طرابلس في تلك الليلة، لكنه قال في مقابلة انه اعتقد ايضا ان بعض رجاله شاركوا في الهجوم.
وفي الحال، تسابق العشرات، ان لم يكن المئات، الى مشهد الحدث. بعضهم جاء مسلحا، وبعضهم حمل الكاميرات. ووضع المهاجمون نقطة حراسة على شارع فنيزيا، المجاور للمجمع، لحراسة خاصرتهم الخلفية، لكنهم سمحوا بمرور اي شخص كان يريد ان يشارك في الاضطراب. وقال الشهود ان شبابا من انصار الشريعة اندفعوا الى الداخل تاركين شاحناتهم فارغة، ولكن شارك ايضا شباب من كل المليشيات الكبيرة التي تزعم تحالفها مع الحكومة.
ليس هناك من شك ان الغضب من الفيديو قد حفّز الكثير من المهاجمين. وقد مُنع صحفي يعمل لصحيفة نيويورك تايمز من الدخول من قبل الحراس في الخارج، وقد علِم عن الفيلم من المقاتلين الذين اقفوه. كما قال شهود عيان ليبيون آخرون انهم تلقوا محاضرات من المهاجمين عن شرور الفيلم وفضيلة الدفاع عن النبي.
لم نتمكن من معرفة مكان تواجد السيد ابو ختالة في اليوم السابق للهجوم، ولا دوره فيه على وجه التحديد. يقول الناس الذين يعرفوه انه كان في العمل كما هو معتاد في الايام السابقة لهذا اليوم.
يقول احد قادة المليشيات الاسلامية الرئيسية، طالبا عدم ذكر اسمه خوف الانتقام: "الحي الذي يقطنه مليء باناس امثاله. ولذلك من السهل عليه التقاط سماعة الهاتف وتحشيد الناس حوله."
وعرّف الشهود الذين تواجدوا في المشهد الكثير من المشاركين المرتبطين بانصار الشريعة. وكان حضور السيد ابو ختالة وقيادته دليلا على ذلك. وقد بقي مبدئيا في الخلف، واقفا قرب الجمع على طريق فنيزيا، حسبما افاد بعض الشهود. لكن رتلا من المقاتلين هُرعوا اليه خارجين من بين الدخان والاطلاقات النارية، مخاطبيه بـ"شيخ"، واعطوه تقريرا او تلقوا اوامره قبل ان يغوصوا في المجمع مرة ثانية.
يقول الناس الذي كانوا حاضرين هناك ان مسؤولا محليا في بنغازي، هو انور الدوس، وصل الى المشهد وعرّف السيد ابو ختالة على انه من يقوم بادارة المقاتلين. ثم اقترب السيد الدوس من السيد ابو ختالة طالبا المساعدة في دخول المجمع.
ودخل الاثنان مقر البعثة بشاحنة السيد ابو ختالة، حسب الشهود. وبينما كان يتقدم، كان المقاتلون ينفرجون لفسح المجال امامه.
واقرّ السيد ابو ختالة، في مقابلة، انه التقى بالسيد الدوس تلك الليلة. ورفض السيد الدوس التعليق. يقول الشهود انه حينما فُتحت ابواب الشاحنة داخل المجمع، القى السيد الدوس بنفسه الى الارض تفاديا لاطلاق النار القادم من كل جهة. لكن السيد ابو ختالة بقي متمهلا باردا خلال الفوضى.
يقول اسلامي شاب التحق بعملية النهب، طالبا عدم ذكر اسمه خوفا من الانتقام: "لقد كان رابط الجأش كما ينبغي." وبحدود الساعة 11:30 مساءً، ظهر السيد ابو ختالة في كاميرا امنية داخلية، استنادا الى المسؤولين الذين شاهدوا مقاطع تلك الكاميرا.
وصف الشهود هرجا ومرجا في الداخل. نهب رجال بدلات من الملابس وحملوها معهم بحمالاتها. وجرّوا اجهزة التلفاز. خرج بعضهم من الابنية ممسكين بالطعام الذي وجدوه، وصب احدهم ما يبدو انه مستحلب شوكولاته من نوع هيرشيز الى فمه. وتشاجر آخرون حول التحفيات، كما اختلفوا على حبل ملفوف متروك على الارض.
وقبعت مولدة جديدة غير مثبتة قرب البوابة الرئيسية، مع حاويات كبيرة من الوقود بالقرب منها. وقد عثر عليها المهاجمون خلال 15 دقيقة من دخولهم المجمع، استنادا الى المسؤولين الذين شاهدوا مقاطع الفيديو، وبدءوا في الحال استعمال الوقود لاشعال الحرائق في المركبات والابنية.
وغسل قادة المليشيات الليبية، الذين ربما تدخلوا لمساعدة الاميركيين، ايديهم من الهجوم. كان القائد المسؤول عن ما يسمى بغرفة العمليات المشتركة داخل مقر كتيبة 17 فبراير هو السيد برغاثي، من المليشيا المسماة كتيبة الامن الوقائي. وقد كان صديقا وجارا للسيد ابو ختالة منذ الطفولة.
وقال انه اتصل بالراديو بالحراس الليبيين في المجمع واخبرهم بعدم مقاومة الاعتداء. وقال: "اخبرتهم: لا تطلقوا النار. فقط اهربوا من المكان." مضيفا: "لاني علمت ان التحريض ليس من الحكمة. هؤلاء ليسوا مهاجمين اعتياديين، وربما يؤدي ذلك الى اشعال غضبهم اكثر من ذلك. ربما يقتلون كل شخص في الداخل."
وتطوع بالقول ان قادة انصار الشريعة التحقوا به في غرفة العمليات بعد وقت قصير من بدء الهجوم، مؤكدا على نفاذية الخط بين التهديد والحماية بين مليشيات بنغازي.
ومن بين كل المليشيات في المدينة، كانت مليشيا درع ليبيا الافضل موقعا للتدخل. ويجادل البعض بانها كانت اكبر المليشيات حجما في ذلك الوقت. كما استلم قائدها، السيد بن حامد، نداءً مستعجلا من صديق السفير السيد حبيب طالبا المساعدة. وقال السيد بن حامد، في مقابلة، انه وصل الى الموقع خلال ثلاثين دقيقة من بدء الهجوم.
وقال السيد بن حامد: "لم يكن الوضع ملائما بالنسبة لي لدخول المجمع. وحينما توقف اطلاق النار، اعتقدت انه تم اخلاء الاميركيين."
وقد حاولت مجموعة من 20 شابا كانوا متواجدين في مقر كتيبة 17 فبراير مساعدة الاميركيين. لكنهم اصدموا بنقطة الحراسة التي وضعها المهاجمون في شارع فنيزيا.
يقول شريف عمراجي الشريف، 18 سنة، وهو طالب هندسة نفط ومن بين الاشخاص الذين حاولوا مساعدة الاميركيين: "لقد وجهوا بنادقهم نحونا وقالوا: هذا ليس من شأنكم، عودا ادراجكم."
يقول المنقذون ورجال المليشيا الاخرين ان مقاتلي المليشيات جميعا اتبعوا قاعدة غير مكتوبة. لا تشتبك مع ليبي آخر في اطلاق نار ابدا، مخافة ان تبدأ بذلك دورة من العنف الثأري والمطالبات بالفدية. يوضح السيد شريف: "ذلك امر اعتيادي. مهما حدث، فان اولئك هم ليبيون ايضا." (في آخر الامر دخل السيد شريف مع منقذ آخر المجمع مع الاميركيين من ملحقية الاستخبارات، وكان قد اصيب في ساقة نتيجة اطلاق النار في الداخل.)
وفي حين كان الصخب مستمرا، قاد السيد ابو ختالة شاحنته الى مقر انصار الشريعة والمليشيا المتحالفة معها، مليشيا عثمان بن عفان، حسب الشهود.
وفي مرحلة ما، سأل مقاتل السيد ابو ختالة عما يمكن فعله لما تبقى من المجمع، فاجاب: "ساووه بالارض."
وظهر السيد ابو ختالة لاحقا للتهيئة لهجوم آخر. وقال مقاتل معه لمقاتل آخر: "لنطهر انفسنا في معركة اخرى"، في اشارة واضحة للهجوم اللاحق على ملحقية الاستخبارات.
ويبدو ان هذا الطور قد أُرتجل تلك الليلة. بعد ان هرب الاميركيون من البعثة الى الملحقية، اصبحت هذه الاخيرة تحت هجوم متقطع وبمستوى ادنى للمرة الاولى، ما يدل عن ان المعتدين قد علموا بذلك للتو. ولاحقا، لاحظ الحراس ان هناك اشخاصا يستكعون في المنطقة المحيطة، ما اثار المخاوف بانهم كانوا يحسبون الاحداثيات لاطلاق قذائف الهاون.
وفي طرابلس، ناضل الدبلوماسيون لفهم الاخبار القادمة من بنغازي. عرف الكثير منهم عن وجود انصار الشريعة من الوسائط الاجتماعية اثناء الهجوم. وارسلوا سبعة حراس امنيين الى بنغازي على متن طائرة شحن ليبية مستعارة.
ورتّب مسؤولو السفارة ان يلتقي فتحي العبيدي بالفريق، وهو مساعد موثوق للسيد بن حامد قائد درع ليبيا. ولكن حينما حطت الطائرة حوالي الواحدة من بعد منتصف الليل، بدا ان كل قائد في بنغازي كان يتنافس على شرف اصطحاب الاميركيين، حتى اولئك الذين لم يفعلوا شيئا لوقف الهجوم، بضمنهم السيد بن حامد نفسه.
يقول السيد العبيدي ان مجموعة من كتيبة الامن الوقائي، قادها تلك الليلة صديق ابو ختالة القديم السيد البرغاثي، اصرت على المجيء، وابقت الفريق منتظرا لساعات على المدرج. وبدلا من الاصطحاب المستتر الذي اراده الاميركيين، التحق بهم موكب من اثني عشرة شاحنة في آخر الامر.
وبعد وقت قصير من وصول القافلة حوالي الساعة الخامسة فجرا، وقعت الملحقية تحت هجوم جديد: قذائف الهاون التي كان يُخشى منها. سقطت خمسة منها خلال تسعين ثانية، الثلاثة الاخيرة منها ضربت سطح البناية الرئيسية.
وفرّ جميع الليبيين الذين اصروا على مرافقة الاميركيين من المطار في الحال تقريبا.
قُتل حارسا امن اميركيان، هما تايرون وودز وغلين دورتي، بقذائف الهاون. واختنق السيد ستيفنز وسين سميث، 
المسؤول المعلوماتي، نتيجة احتراق البناية الرئيسية في المجمع الدبلوماسي.