قراءة في كتاب "سنتي في العراق: الكفاح لبناء مستقبل للامل"
تأليف: ل. بول بريمر ومالكولم ماكونيل
مراجعة: جورج باكر، عن: الواشنطن بوست
ترجمة: علاء خالد غزالة
على مكتبه الغائر والمتجرد في القصر الجمهوري ببغداد والذي حكم منه العراق خلال عامي 2005 و2006 حفظ بول بريمر (الثالث) حكمة منقوشة على الخشب تقول: "للنجاح آلآف من الآباء". وهي تخبر الزوار ان مدير سلطة التحالف المؤقتة (CPA) هو قائد متحمس يتجنب اشارت المبالغة، بينما يطلب نتائج متصلبة من موظفيه الانجلو-امريكان والسياسيين العراقيين الذين كانوا شركائه المفاوضين الممتعضين بالاساس. ولم يكن بريمر رجلا ذا استبطان بارع او متفحص لذاته. ومذكراته الجديدة، والتي يظهر انها أخذت من رسائله الالكترونية التي كتبها آخر الليل الى زوجته فرانسيا في واشنطن، هي احداث يوم بيوم لفترة الـ14 شهر التي قضاها بريمر في بغداد. وكانت وظيفته ذات متطلبات مستحيلة خلال فترة من الازمات المستمرة، والتي نادرا ما نعم فيها بالرفاهية للنظر اكثر من بضعة ايام للامام، وليس الى الوراء. ولكن حتى الان مع اعادة استعراض الاحداث الماضية، و400 صفحة من ازاحته، لا يبدو بريمر مهتما، وقد لا يكون قادرا على التفكير بانها قد انتهت. "سنتي في العراق" (يبدو العنوان وكأنه استرجاع) لن يصمد امام المذكرات الدبلوماسية لجورج اف كينان ودين اتشيسون وريتشارد هولبروك لا من الناحية الادبية ولا من الناحية التاريخية. ان الاستعجال، والثقة بالنفس، والسطحية المتأصلة، جعلت الكتاب جزءا من الحرب التي انتجته.
لقد كان امام بريمر اسبوعين فقط لتهيئة نفسه لادارة العراق. فقد وصل الى بغداد في ايار 2003 ليجد البلد يكاد يكون مهدما من قبل صدام حسين واعمال السلب والنهب التي تلت سقوطه، ويجد كادر من الموظفين المحبطين. ولتحقيق مصداقيته قام بريمر فورا وبشكل غريزي بما عجزت عنه ادارة بوش والجيش الامريكي: تولى مسؤولية القصر. ان افضل ما يمكن ان يقال عن بريمر –وينطبق ذلك على الكثير من الشخصيات القيادية في هذه الحرب- انه قد أخذ العراق على محمل الجد. فهو يقول انه في اجتماعه الاول مع موظفيه طلب منهم "ان يكونوا اكثر حزما وان يركزوا على الحلول العملية وان لا يستسلموا للتخريف المتشائم... قد اكون فزت باحد النزاعات الشعبية، ولكن كما اقترح ابنائي، فان حذائي الصحراوي شجعني على البدء بركل بعض الاعقاب". ومع تهاوي كل شيء حوله، قام بريمر بكسر الجمود الاداري، كما لو كان القرار لوحده يمكن له ان يعبر به وبالعراق خلال المحنة. لقد اصاب حركة الارضية وحرّك زوبعة من السياسيات والخطط.
واذا لم يكن قد توقف للحظة خلال تلك الايام الاولى ليسأل نفسه ما الذي ينبغي لمسؤول امريكي متقاعد ذي خبرة محدودة فيما وراء البحار، وهي ليست في منطقة مماثلة، ان يتعلمه ويعرفه لكي يحقق النجاح، او على اية أسس عليه على الاقل ان يحاول، فان مذكراته لم تظهر اية علامات على ذلك. والغريب بشكل مروع انه لم يُبدِ تأثرا بما أنيط به على الاطلاق. والظاهر ان بريمر كان كمن ينتظر النداء للذهاب وادارة بلد مسلم محتل، وتمزقه الحرب، لمدة سنة او نحوها. واكثر نقاط القوة فيه، بالاضافة الى حزمه والذي كان اساسيا لفترة ما بعد الغزو، هو فشله المزمن. خلال ايام من وصوله اتخذ ثلاثة قرارات والتي سيكون لها عواقب بعيدة المدى على المشروع الامريكي في العراق. فقد منع كبار البعثيين من العمل الحكومي، وحلّ الجيش العراقي، وعلق تشكيل الحكومة الانتقالية الى اجل مسمى، واستولى على سلطات اكبر بكثير مما كان اكثر المسؤولين في ادارة بوش يتوقعون. وتخبرنا المذكرات ان القرارين الاوليين تم اعدادهما بالتعاون مع المسؤولين في واشنطن، ومعظمهم مدنيين في البنتاغون. اما القرار الثالث فهو قرار بريمر نفسه. لقد ادعى انه حصل على الدعم من البيت الابيض، لكن الادلة المقدمة على ذلك ضعيفة للغاية. نادرا ما يظهر نائب الرئيس الامريكي تشيني في كتاب بريمر، اما الرئيس بوش فيبدو وكأنه رئيس صوري يميل الى تأكيد القرارات اكثر من رجل غارق في اكثر مهامه اهمية على الاطلاق.
ان توضيح بريمر لهذه القرارات هو عموما مجرد تبرير للافعال الذاتية. فهو يسجل تقدير الزعماء الشيعة والاكراد لقراري اجتثاث البعث وحلّ الجيش، ولكنه لم يأخذ بنظر الاعتبار القضية القوية ضد هذه السياسيات، والتي قدمت ليس فقط من قبل منتقدي الحرب ولكن ايضا من بعض المسؤولين معه، وهي ان تلك القرارات قد غذت التمرد. لقد كان حكم بريمر مشحونا بخيارات هوبسون والمعضلات الثلاثية، وجميعها تدور حول نزاع اساسي بين السيطرة والشرعية. ان كاتبا متعمقا اكثر كان من الممكن ان يتخذ خطوة تاريخية طويلة الى الوراء، وان يسأل نفسه على الاقل فيما اذا كانت سلطة التحالف المؤقتة كانت كيانا ضروريا.. ما اذا كانت قد اضرّت اكثر مما نفعت. ان تكوين سلطة تتحمل جميع الاوزار وتستحوذ على جميع سلطة الاحتلال تقريبا، والتي اتخذت من المنطقة الخضراء مقرا معزولا لها، هو امر مفهوم كاستجابة لحالة الفوضى والفشل البائس في عموم المجتمع. ولكن سلطة بريمر ارتكبت الخطأ تلو الاخر فيما كانت تشرف على العراقيين المنزلقين نحو العنف غير المُتصور.
هل كان يجب تسليم السلطة للعراقيين، ومعظمهم من المغتربين، منذ البداية؟ هل كانوا يستطيعون ان يقدموا الافضل؟ لم يقدم وصف بريمر اي تقييم للنزاع المستديم في مجلس الحكم الذي تم تأسيسه في تموز 2003. ولكنه لم يكن سؤالا توقف بريمر برهة ليسأله، لا في حينه ولا الآن.
ولكن بريمر كان ابعد نظرا حول بعض الامور ومحقا اكثر من اي شخص اخر في واشنطن. لقد علم مبكرا ان القائد الديني المتشدد مقتدى الصدر واتباعه سوف يقيمون منطقة نفوذ في منطقة الجنوب الشيعية اذا لم يتم التعامل معهم بالقوة مبكرا، ولكن واشنطن، خصوصا البنتاغون، كانت تفقد اعصابها كلما حانت لحظة التصرف. لقد فهم بريمر اهمية الدستور المؤقت المعروف بقانون ادارة الدولة المؤقت (والذي كـُتب تحت الاحتلال من قبل مسؤولين امريكيين وعراقيين) في اعداد الاطار السياسي للعراق لما بعد سلطة التحالف المؤقتة. ومن سخرية الاقدار ان هذه الوثيقة كانت الانجاز الاكثر رسوخا والاصعب منالا. واستنادا الى كتاب (سنتي في العراق) فقد كان ايضا قلقلا منذ وقت مبكر من ان القوات الامريكية في العراق لم تكن كافية، وقد حاول عدة مرات ايصال هذه الفكرة الى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، والى الرئيس، دون ان يحالفه النجاح. ويبقى من الصعب ان يُمنح بريمر مصداقية لتبصره، فبدلا من القول علانية ان مستوى القوات كان غير مناسبا، فانه كان على الدوام يردد خط الادارة الامريكية والتي كان يعلم خطأها. ومع وجود حيوات لامريكيين وعراقيين على المحك، وتعرض كل المشروع للخطر، كان مثل هذا الولاء مجرد فضيلة جوفاء.
ان اسلوب كتابة يوميات بريمر الرشيق يمر بصمت، او يضفي بريقا من خلال تعبير لطيف، على بعض المشاكل المزمنة في فترة حكمه. فهو يذكر في المذكرات انه كان يتفق مع الجنرال ريكاردو سانشيز، ثم مع قائد قوات التحالف حول القضايا الرئيسة. ولكنهما في الواقع كانا يعارض كل منهما الاخر، وبالكاد يتحادثان.. فكل منهما شعر ان الآخر استولى على سلطة هي حقيقة تعود اليه. لقد قاوم بريمر كل انتهاك تقريبا لسلطته في اتخاذ القرار، سواء من الامم المتحدة او من قادة الجيش او من مستشار الرئيس في العراق روبرت دي بلاكويل. بعض مسؤولي الادارة الامريكية شعروا ان سلطة بريمر اصبحت بلدا اجنبيا، غير خاضعة للمساءلة من قبل اي شخص في واشنطن، وانه كانت هناك جهود متقطعة من قبل المقر للجم القادة الميدانيين. لم يكن لأي من هذه الصراعات تحليل او اعتراف في كتاب (سنتي في العراق).
ولكن بريمر كان له بالفعل غريمان في هذا الكتاب. احدهما دونالد رامسفيلد الذي تزايد نفاذ صبره حول وجود القوات الامريكية في العراق حالما تم اسقاط تمثال صدام حسين في بغداد، ولم يرغب في الزام جيشه بمعالجة ما يحصل بعد ذلك. فسوف يحكم التاريخ عليه انه فعل كل ما يمكن لامريء ان يفعله لايقاف تلك الجهود. والمفاجأة الاخرى كانت آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الشيعي والسياسي الاكثر نفوذا. منذ البداية فشل بريمر في التعرف على شخصية هذا الرمز الكبير، حيث انه ليس هناك شيء حقيقي تقوم به سلطة التحالف المؤقتة دون موافقته. وبدلا من ذلك فقد قرر بريمر مبكرا ان ذلك الرجل المبجل وغير المنتخب لن يخبره كيف يحكم العراق. ان صلابة السيستاني وصعوبة مساومته ملأت بريمر بنفاذ الصبر وأثرت في تدني المستوى. في خلال السنة التي تنافس فيها الرجلان تجلت محدوديات بريمر واضحة للعيان. لقد كان مسؤولا رفيعا لم يحز ببساطة على المرونة والمهارة لفهم من يجابه وكيف يتعامل معه. ان هذا الصراع بين الرجلين المختلفين بشكل هائل كان يمكن ان يغني صفحات اكثر الهاما ونقدا للذات في المذكرات. في (سنتي في العراق) من المؤلم ان المؤلف لا يتطرق حقيقة الى الظروف.
بينما اكتب هذا من بغداد، هناك اضواء في الخارج عبر المدينة، وطائرات الهليكوبتر نوع بلاك هوك تدمدم فوقها. ان حس الامكانية في عنوان بريمر الجانبي قد خمد، الآن على الاقل. فبعد سنة ونصف على مغادرته، تفوح رائحة الخوف من المدينة. لقد رمى بريمر نفسه بكثير من الانضباط والتكريس في مشروع اخراج العراق من الهاوية. هناك مأساة في تاريخه تستدعي ان يكتب عنها غيره، ففشل بريمر كانسان وككاتب انما هو فشل لامريكا في العراق. وهي ستبقى يتيمة.